مركزية الشريعة أم السلطة (أهل السنة بين الحضرة والغياب)

1-السلف ومركزية الشريعة:

استطاع السلف أن يحافظوا على مركزية الشريعة بتحييد السلطة من التدخل في فهم الشريعة وبيانها، بحيث يبقى البيان الإلهي واضحا لمن اهتدى، فازدهرت العلوم الإسلامية بالرغم من الملك العضود، وتفرغت الأمة لإكمال الفتوحات ورد الغزو الخارجي والكيد الباطني.

2-الطوائف ومركزية الإمامة على حساب الشريعة:

 لكن طائفة المعتزلة والشيعة والخوارج ذهبوا إلى مركزية الإمامة والصدام معها أو استمداد القوة منها، فتأخرت هذه الطوائف إلى الهامش بسبب مركزية الاستنزاف في الصراع على السلطة، وثانوية الشريعة بالنسبة لذلك الصراع، بينما تمكن أهل السنة من الجمع بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولزوم الجماعة والدولة، فاستمرت الفتوحات واتحدت الشعوب مع الحكام في رد عدوان المغول في عين جالوت والفرنجة في حطين، وغير ذلك من الصيغة التوافقية بين الحاكم والمحكموم التي تحمي الشريعة من التدخل، والمجتمع دولة وشعبا من التفكك، خلافا للصيغة الصِّدامية أو التابعة في فكر الخوارج والاعتزال والشيعة القائمة على ثورية المختار الثقفي، وانتهاز الفرص، مع الدولة أو ضدها.

3-الحداثة ومركزية الدولة وتابعية المعارضة:

أما  بعد الحداثة، فقد أثَّرَت في صناعة التدين الجديد الذي قام على تقسيم الدين بحسب الدولة ولاء ومعارضة إلى علماء معارضة ربانيين وعلماء سلطة مداهنين، أو علماء سلطة معتدلين وعلماء معارضة خوارج، حيث أصبحت المعارضة متغيرا تابعا، والدولة متغيرا مستقلا، وصار التدين مؤقتا  متغيرا بسرعة حسب المكاسب المؤقتة على طور جديد من برنامج  أعْطِه يا غلام، ويختلف المتغير التابع إذا اختلفت الدولة ولاء ومعارضة، وفقدت الحركات والجماعات الدينية الدوام والبناء بسبب التناقض وكثرة التقلب، إلى أن استنفدَت مُمْكناتها تجاه الأزمات التي تعصف بالأمة، لأن الشريعة في الواقع قد فقدت مركزيتها وقوتها الفقهية في البناء المستمر على المذاهب المتبوعة، وبسبب مركزية الصراع على السلطة وتعليق العمل بالشريعة في منظومة الدولة إلى حين الاستيلاء على السلطة.

4-ضمور العلوم الإسلامية بسبب مركزية الدولة وهامشية الشريعة:

 فضمُرت العلوم الإسلامية، وتأثرت بالحداثة في إعادة النظر في النص الديني والمذاهب المتبوعة بسبب هيمنة الواقع وضمور الشريعة، فاختلف الناس في الكفر والإيمان والولاء والبراء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحول الجهاد من الحرب مع الغزو الخارجي إلى حرب أهلية بسبب التكفير، وتلاشت الحقائق الشرعية، وتحولت إلى ثقافة عامة على يد ابن الجيران المجدِّد، والطور الجديد من برنامج أعطه يا غلام، فرأى الناس المنكر معروفا والمعروف منكرا، ثم أمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف بسبب تمزيق أدلة الشريعة واستنزافها في صراعات الولاء والمعارضة.

5-تحوُّل الثوابت إلى وجهات نظر:

إن الصراع الفكري داخل الحركات الدينية نفسها بسبب تناقض المتشابهات على أتباعها، أو الصراع مع الدولة حسب متحورات الطوائف، صارت الأمة بين أكثرية أهل السنة مشتتة إلى أقليات دينية متنازعة، ودولة ترجح التوازن الدولي على التوازن الداخلي بسبب ذلك الشتات الذي يضعف الجميع، وصارت مسألة رد الغزو الياهو مسيحي على فلسطن مسألة وجهات نظر، وقابلة للاختلاف، بسبب المشتابهات والصراع  على المكاسب السريعة والمؤقتة في الحركية الدينية المتقلبة بتقلبات الواقع،  والتفكير الديني الجزئي الذي يجيد صراع المتشابهات على حساب المذهب البنائي المحكم والمستمر، وقُطع ما أمر الله به أن يوصل من سنة السلف العلمية في المذاهب المتبوعة، التي تجمع كليات الأمر بالمعروف وصدق البيان عن الله تعالى ورسوله، مع وجوب لزوم الجماعة في المجتمع والدولة.

5-العودة إلى مركزية الشريعة عند السلف:

ومن هنا تجب العودة إلى مركزية الشريعة في بيانها المعرفي الفقهي والأصولي، ووصل ما أمر الله به أن يوصل من السنة العملية في المذاهب المتبوعة، وإعادة اللحمة الاجتماعية بين العامة والدولة،  وذلك عن طريق بناء معرفي على أصول أهل السنة، ومن هنا نخرج من المبادلات الصفرية بين الجماعات الإسلامية، التي إذا ربحت واحدة خسرت أختها، وإذا ربح الشعب خسرت الدولة، وإذا ربحت الدولة خسر الشعب، وبالعودة إلى مركزية الشريعة تُلزمُ الجماعة، على أصول الأمة لا على الرؤى الفئوية للشخص والجماعة، وهذا يحرر الجميع من وطأة الحداثة التي تطحن الدولة في المنظومة الأممية في شبكة المصالح والقوانين، ثم الدولة تطحن الأفراد ضمن منظومة الدولة المتدخِّلة، ولكن بالجماعة والاستقرار الداخلي يصبح ذلك مؤثرا في العلاقة الدولية، لأن تماسك الجبهة الداخلية مقصد أصلي مقدم على التوازن في العلاقات الخارجية.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا يَنْجبِر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

23 -شعبان-1445

4-3-2024

1 thought on “مركزية الشريعة أم السلطة (أهل السنة بين الحضرة والغياب)

  1. مارس 5, 2024 - غير معروف

    بارك الله في علمك ونفع الله بكم سيدي ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top