حوار مع أخي (31) بين المثقف والفقيه (نأخذ من الغرب ما ينفعنا ونترك ما يضرنا)

عامر: نحن نأخذ من الغرب ما ينفعنا ونترك ما يضرنا.

وليد: كذلك الغرب يأخذ ما ينفعه ويترك ما يضره، فما الفرق بينك وبينه، فالمسألة ليست في المباديء، إنما هي في تفسير معنى النفع والضر، فما معنى المنفعة والمفسدة؟ وكيف يُعرفان؟

عامر: ألا يكفي أن نقدر الشيء نافعا أو ضارا بما يجلبه من نفع أو ضر ؟

وليد: هذا تقدير نفسي انطباعي، ولا بد من المعايير  الشرعية في فهم المنفعة والمفسدة وتحديدها، فإنه لا يوجد في الواقع منفعة خالصة أو مفسدة خالصة، فإما أن تجد منفعة غالبة ومفسد مغلوبة في الشيء نفسه، كالجهاد ففيه حماية الدِّين وأَلَم تلف النفوس والأموال، والخمر  فيها منافع وفيها مفاسد، فكيف تأخذ بمنفعة لا تنفك عن المفسدة، وهما مُمْتزجِتان في شيء واحد، وكذلك الحروب ففيها منافع ومفاسد، والعبرة بالغالب فإن كانت مفسدة غالبة مُنعت،  وإن كانت منفعة غالبة جازت.

عامر: وهذا هو المقصود من قولي: نأخذ بما ينفعنا ونَدَعُ ما يضرنا.

وليد: ولكنك لم تُفصِّل لنا، وكان قولك مُجْمَلا في أنك تأخذ بالمنافع وفيها مفسدة مغلوبة، أو تترك مفسدة غالبة فيها منفعة مغلوبة.

عامر: نعم نحن نراعي المنفعة الغالبة وفيها مفسدة مغلوبة، فنقول تجوز شرعا المنفعة الغالبة وفيها مفسدة مغلوبة، وتحرم المفسدة الغالبة وفيها منفعة غالبة كالخمر كما في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ).

وليد: إذن، أنت تقول إن الله أجاز منفعة غالبة فيها مفسدة مغلوبة.

عامر: نعم

وليد: هذا يعني أن الله تعالى قد أمر شرعا بالمفسدة المغلوبة.

عامر: وما الإشكال في ذلك؟! فلا يوجد شيء في الدنيا بلا مفسدة مغلوبة، حتى الجهاد فيه منفعة غالبة وهي حماية الدين والأمة، وفيه مفسدة مغلوبة، وهي هلاك النفوس والأموال في هذه الغاية.

وليد: فإذا أمر الله بالجهاد، وفيه مفسدة مغلوبة، فهذا يعني أن الله تعالى أمر بمفسدة مغلوبة، وإن الله لا يأمر بالفساد، ولو كان قليلا مغلوبا.

عامر: وما الإشكال في أن يكون في الواجب شرعا مفسدة، كما أن في المحرَّم شرعا منافع مغلوبة، فقد قال تعالى:  (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) 219،البقرة.

وليد: هذا يعني أن الله يأمر بمفسدة مغلوبة كما في الجهاد، ويحرم مصلحة مغلوبة فيها خير كما في الخمر!

عامر: نعم، وهذا واضح في الآية التي تذكر منافع في الخمر كما سبق، وفي آية الجهاد في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) البقرة، فالله تعالى يصف الجهاد بأن فيه ما يكرهه المؤمنون، وهذه الكراهية فيها ألم القلب وهي مفسدة.

وليد: إذن أنت تؤكد أن الله تعالى يأمر بالمفسدة المغلوبة في الجهاد، ويحرم المصلحة المغلوبة في الخمر.

عامر: قلت: الآية تؤكد ذلك، وهذا واضح في الآيات.

وليد: إذن أمر الله تعالى بقليل من الفساد في الجهاد وما يكره فيه من تلف نفوس المؤمنين وأموالهم، وحرم مصلحة مغلوبة في الخمر كالربح في تجارتها ، فكيف نفهم قوله تعالى أنه لا  يأمر بالفحشاء؟ ولو قَلَّت، والمفسدة من الفحشاء ولو قَلَّت، وتحريم المصلحة ولو مغلوبة فهو ظلم، والله لا يأمر بالمفسدة ولو قَلَّت، ولا ينهى عن المصلحة ولو نَدَرَتْ، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) الأعراف، فهل يجوز أن نقول إن الله يأمر بالمفسدة القليلة كما زعَمْتَ في الجهاد؟ !  وكيف تجمع بين تحريم الظلم ووجوب القسط إذا كان في الظلم مصلحة مغلوبة، وفي القسط المأمور  به شائبة المفسدة؟ !

عامر: بصراحة الأمر يحتاج تأملا، وليس بهذه السهولة.

وليد: حسنا، لِنَقُل: إن الزعم بأخذ المنافع وترك المضار في الحضارة الغربية، هو وجود عادي حسي لا شرعي، فلا يوجد في العادة شيء منفعته خالصة، أو مفسدته خالصة، بل لا بد  أن تكون المنفعة أو المفسدة غالبة أو مغلوبة، وهذا كلام باعتبار الوجود الحسي العادي، من حيث اللذة في المنفعة، والألم في المفسدة.

عامر: وهذا صحيح في الواقع، ونحن لا نختلف في تقدير المنفعة والمفسدة باعتبار اللذة والألم في الحس والعادة، ولكن كيف يمكن أن نفهم ذلك من حيث الحكم الشرعي، بالجواز والتحريم؟ مع أن هذه المنافع والمفاسد لا ينفك بعضها عن بعض في الواقع، فيكون الله تعالى في الجهاد أمر بشيء فيه مفسدة، والله يأمر بالقسط لا بالمفسدة، وينهى عن الظلم لا عن المصلحة، ويجب تنزيه الله تعالى عن الأمر بالفحشاء، فكيف تتكامل النصوص معا في بيان حقيقة المصلحة والمفسدة شرعا.

وليد: إذا نظرنا من جهة الواقع، قلنا: إن المنافع والمضار ممتزجة لا تنفك عن بعضها، أما إذا نظرنا إلى الحكم الشرعي فإن الشرع يأمر بمصلحة خالصة، وينهى عن مفسدة خالصة، فإذا قلنا هذا جائز شرعا، فإنه باعتبار الشرع مصلحة خالصة، وباعتبار الواقع ممتزج بمفسدة، وكذلك يقال في المفسدة المحرمة، فهي باعتبار  نَهْي الشرع مفسدة خالصة، وباعتبار العادة والواقع ممزوجة بمنفعة.

عامر: وعليه، إذا قلنا نأخذ بما هو مصلحة شرعية من الغرب، فهذا يعني أننا من حيث الحكم الشرعي لا يكون فيه مفسدة باعتبار الشرع، فالجهاد من حيث الفرض الشرعي، مصلحة خالصة، والخمر مفسدة خالصة، وهذا المعنى الشرعي لا يمكن تصوره من فلسفة الحداثة في فهم المنفعة.

وليد: نعم، فالله لا يأمر بالفساد، ولا ينهى عن الخير، وهذا لا يتصور في الفلسفة المادية النَّفْعية، القائمة على اعتبار الحس والطبع في تقدير المنفعة والمفسدة.

عامر: فكيف نفسر المضار في الجهاد الواجب شرعا، والمنافع في الخمر المحرمة شرعا، فالجهاد الواجب شرعا،  فيه الألم في النفوس والأموال، وكذلك الخمر المحرمة، فيها منافع كالضرائب والأرباح التي هي منافع.

وليد: إذا نظرنا إلى فِعْل العبد، وتعلُّق أمر الله تعالى بالفِعْل كالجهاد، ففي الجهاد أجر  وثواب لا فساد فيه، وأما ما فيه من المفسدة كألم تلف النفوس والأموال، فهو مفسدة باعتبار  أنها مخلوقة لله تعالى، غير مقصودة للشارع في تكليف العباد، فهذه الآلام غير مقصودة بالتكليف، ولا داخلة تحته، بل هي عارض لا بد منه من عوارض للتكليف، وليست الآلام مقصودة من الأمر بالجهاد.

عامر: إذن المفسدة في الآلام والمشاق في الجهاد ليست داخلة في التكليف، وبالتالي ليست الآلام والمشاق في التكليف مقصودة شرعا، بل المقصود هو مصلحة الجهاد في التكليف، والمفاسد العارضة ليست داخلة في التكليف، وعليه، لا تدخل مشقة الجهاد في التكليف، بل هي عارض لا بُدَّ منه في العادة، ويمكن أن يقال مثل ذلك في الخمر من أن المصلحة المغلوبة فيها غير داخلة في النهي، وإن كانت حاصلة بالعادة.

وليد: نعم، هذا هو التفصيل الدقيق في معرفة التكليف، فالله تعالى يخلق الخير ويرضاه ويأمر به، ويخلق الشر ولا يأمر به، ولا يرضاه لعباده، فإذا نظرنا للشرور  في إنتاج السلاح مع وجوب صناعته شرعا،  فالشر  في صناعة السلاح لا يدخل تحت أمر الله، بل هو مخلوق لله تعالى، كخلق الله تعالى الشيطان والخمر ،فتجوز  إضافة الشرور  باعتبار أنها مخلوقة لله تعالى، لا أن الله تعالى أمر بها، وهنا يظهر الفرق بين التكليف بالفعل، والعوارض التي تعرض للتكليف وليست من التكليف، ولكن العوارض مخلوقة غير داخلة في التكليف.

عامر: إذن الفلسفة المادية  تأخذ بالمنفعة العادية، وتدرأ المفسدة العادية أيضا والمرجع في ذلك الطبع والحِسّ، ولكنَّ نظَرَنا نحن المسلمين مختلف، فإنْ قُلنا جازت المنفعة المشوبة بالمفسدة، فالله أمر  بالمنفعة ولا يأمر بالمفسدة، بل المفسدة كائنة من جهة خلق الله تعالى لها، وليس من جهة الأمر بها، بل المفسدة عارض غير مقصود من التكليف، وكذلك في النهي عن مفسدة كالخمر، فتحريم الخمر لا يكون نهيًا عن المصلحة في الخمر ،بل النهي عن مفسدة لا منفعة فيها، والمنفعة فيها ليست داخلة في  النهي الشرعي، بل هي من خلق الله تعالى، وهي عارضة ليست داخلة في النهي الشرعي.

وليد: هذا صحيح تماما، في تقدير المصالح والمفاسد شرعا، وهو  فرق جوهري مهم في تقدير المصلحة والمفسدة من ناحية الشرع، والمصلحة المفسدة من ناحية الرؤية  الفلسفية المادية التي مرجعيتها الطبع والحس، التي تنظر إلى أن كل ما تراه هو من منتجات الطبيعة ولا يوجد فرق بين المنافع والمفاسد العادية في الطبيعة، ولكن الفرق حاصل بين التكليف الشرعي بالتفاصيل التي بَيَّناها والفلسفة المادية.

عامر: مِن المهم التمييز بين ما يريده الله ويخلقه من خير أو شر من جهة وبين ما يأمر الله به أو ينهى عنه، ومن الخطورة تفسير مقاصد الشريعة باعتبار المنافع والمفاسد بحسب العادة، بل لا بد من المرجعية الشرعية في أدلتها التفصيلية وأصولها الكلية لبيان حكم المفاسد والمنافع شرعا.

وليد: نعم وقد وضَّح النقل ذلك، فقال تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) الأعراف، ففرَّق بين الخَلْق والأمر، وأنَّ سبْق الخلق من الله تعالى، هو مقدمة استحقاق الربوبية والعبودية، وهو التكليف الشرعي للعباد، فالتكليف الشرعي بناء على حق الربوبية والعبودية، وليس بناء على ما في ذوات الأشياء من منفعة ومفسدة، وهذا يعني استقلال الحكم الشرعي بأمر الله ونهيه، وأنه حق العبودية لله تعالى، وأن الله تعالى يراعي مصالح عباده تفَضُّلا ورحمة بهم، لا تَبَعًا لما يقرره الإنسان برأيه من منفعة أو مفسدة في الأشياء، فالحكم الشرعي متبوع، لا تابع للمفاسد والمنافع العادية في الأشياء، بل الحكم الشرعي حاكم على العباد، وليس العُباد حكاما على الشرع تبعا لرؤيتهم وتقديراتهم للمنافع والمفاسد.

عامر: أظن أننا ما زلنا على الشاطيء في هذا البحث، فإذا كان كل هذا النقاش في تفسير المصلحة الشرعية، وتمييزها عن المنفعة المادية في الحداثة، وكذلك المفسدة، فكيف لو ناقشنا في ترتيب هذه المصالح الشرعية والمفاسد تحت الكليات الشرعية وعلاقة الجزئي مع الكلي، فسيظهر لنا خلافات جوهرية كثيرة.

وليد: ألا تظن أن عبارة: نأخذ ما ينفعنا وندع ما يضرنا هي عبارة صحفية وساذجة، بالنسبة إلى هذا التفصيل الفقهي الأصولي، وأنه لا بد من التحديد للمفاهيم أولا، في بداية البحث، وأن الحداثة تتعمد التَّعْمِية في المفاهيم، ودورنا في الشريعة هو البيان والوضوح.

عامر: هذا صحيح، ومثل هذه العبارات: نأخذ بما ينفعنا وندَع ما يضرُّنا، لا تُقدِّم تفاصيل علمية، واستدلالات فقهية عميقة، بل هي باديَ النظر جزء من الدوران حول  مركزية الحداثة، في معبد المنفعة المقدسة، وأنا أظن أننا سنكمل النقاش حول تفاصيل اعتبار المصالح والمفاسد في جزئيات الشريعة، وانضوائها تحت الكليات، فالنظر في المقاصد ليس عملا صحفيا سطحيا، بل هو عمل شاق فكريا، ويحتاج إلى معالجات دقيقة، فنحن مختلفون جدا مع مركزية الحداثة في هذا الموضوع، وأنا في شوق لاستمرار الحوار.

وليد: الخلاصة: المنفعة والمفسدة ممتزجتان في العادة ولا تنفصلان، ومن حيث الحكم الشرعي فإن الإذن يتعلق بمصلحة محضة، والمفسدة النادرة عارضة في التكليف وليست منه، والنهي يتعلق بمفسدة خالصة والمصلحة العارضة لا يتعلق بها نهي، بل هي عارض في التكليف، وإن العارض من المفسدة والمصلحة خلق لله تعالى لا يدخل تحت التكليف.  

عامر: خلاصة مفيدة تظهر عُمق النظر الفقهي والأصولي القادر على بيان المصلحة الشرعية بوصفها معارضا شرعيا للمنفعة الدنيوية، ولكن هل من لقاء قريب لإكمال النقاش؟

وليد: نعم سنستمر في الغوص في أعماق الشريعة، لاكتشاف الكلي وبيانه أَتَمَّ بيان، وترتيب الجزئيات تحته، فيما يتعلق بمقاصد الشريعة.

عامر: سنُعِد للقاء القادم عُدته، ولا بد من مناقشة الحداثة في كلياتها وضرب كلي المنفعة الدنيوية بكلي المصحلة الشرعية،  (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) الإسراء .

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

20  -جمادى الأولى-1443

25-12-2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top