أصول الشريعة المتعلقة بحكم الإضراب عن الطعام ((مسألة للمناقشة))

تمهيد:

الأَوْلى في البحث عن حكم الإضراب عن الطعام هو استقراء الأدلة الجزئية، ولما كانت المسألة مستجدة ولا يتناولها دليل تفصيلي بعينها، كان لا بد من بحثها في ضوء الأصول الشرعية العامة، الضرورية والحاجية والتحسينية، وطرق الترجيح بينها،  وجاءت هذه المقالة محاولة للإجابة على الأسئلة الآتية:

1-هل الإضراب مصلحة شرعية، وما الفرق بين المصلحة الشرعية والعادية، وأين يفترق النظر الشرعية في تقدير المصلحة الشرعية وتمييزها عن المصلحة العادية عند غير المسلمين، وما ترتيب تلك المصالح الشرعية بحسب قوتها وامتدادها ورتبة ثبوتها.

2-هل الإضراب يؤثر في ضروري الدين والنفس والعقل، وهل التأثير بالنقص أم بالتمام، وما أثر ذلك في جواز الإضراب شرعا، لا يعنى البحث في نوع الإضراب أو الامتناع الطعام بل النظر باعتبار النظر الأصولي في آثار كل منهما على الضروري.   

أولا: لماذا الإضراب:

يترك  السجين عن الطعام ليكون سبيلا لضغط إعلامي وسياسي  لإطلاق سراحه، وهذا من المصلحة العادية أو المناسب العادي الذي يعلمه المسلم وغير المسلم، وهذا يعني أن المصلحة العادية يجب أن تناقَش في ضوء المناسب شرعا بشروطه، وهذا يجعلنا نطرح الأسئلة حول تحقق المصلحة الشرعية، وهل تَرْجَح المصلحة الشرعية على الأصول الأخرى مثل ضروري الدين والنفس.

ثانيا الاستنباط من المعنى:

إن الاستنباط من النص أهون بكثيره من الاستنباط من المعنى ذلك لأن النص يحمل في طياته المعنى المراد وله قواعد محددة في الدلالة، أما المعنى فالاستنباط منه أصعب منالا، وأخطر حالا، لاتساع المعنى في الذهن، ، واحتمال تعارض المعاني في الخارج، والإضراب تتناوله أصول الشريعة وجها بالإذن ووجها بالمنع، فمن الناس من أخذ وجه الإذن وقال هو جهاد، ومنهم من أخذ منه وجه المنع وقال هو انتحار، وهو له وجه هنا ووجه هناك، وهكذا جميع الوقائع فهي يختلط فيها الأمر بالنهي، والعبرة بالترجيح بين الأمر والنهي والضروري والحاجي والتحسيني، ولو تيقن المسلم المضرب عن الطعام أنه حرام لما فعله، وإننا إذ نحسن الظن بأخينا، ندعو له بكل خير،  وأحاول في هذه المقالة أن ألامس الأصول الشرعية للنظر في هذه المسألة.

ثالثا: تصنيف المصالح المتعلقة بالإضراب:

1-ترتيب المصالح بحسب قوتها:

مصلحة يقينية بإطلاق سراح السجين أو ظنية  أو مشكوكة أو متوهمة، وأفضل هذه الرتب في الترجيح هي يقينية الإفراج أو ظنِّيته، والظنية هي الغالبة، إذ نادرا ما يدخل النزيل في إضراب عن الطعام إلا وهو يرجو الإفراج ظنا أو يقينا.

2-ترتيب المصالح بحسب امتدادها:

المصلحة باعتبار امتدادها إما أن تكون خاصة على فرد أو جماعة أو حزب، وإما أن تكون عامة تمس مصالح المسلمين العامة، وغالبا ما يكون الإضراب عن الطعام مصلحة خاصة، تعود عليه ومن حوله بالنفع، والمصلحة العامة هي التي تعود على عموم المسلمين وهي راجحة على الخاصة.

3-ترتيب المصالح باعتبارها حالة أو مؤجلة:

إما أن تكون المصلحة ناجزة، كقيام الإنسان بمصالحه يوميا، أو تكون مؤجلة يتأخر حصولهها في المستقبل كرجاء الولد في الزواج وإعفاف النفس بعد الدخول، والحالّة مقدمة على الآجلة عند التعارض بين العجيل والتأجيل.

رابعا: قاعدة الفرق بين المصلحة العادية والشرعية في الإضراب عن الطعام:

1-المصالح شرعا ممتدة للآخرة:

المصلحة العادية هي منفعة عاجلة وتمتع بالدنيا، ولا يعني الكافر منها أن تعينه على أخروي، ومن علامات المصلحة الشرعية أنها تمتد في أثرها الحسن إلى الآخرة، فإن كانت عملا يجعل المسلم يفرط في واجباته الدينية فلا يجوز، كقيام الليل الذي يؤدي إلى ضعف في النهار يرتد على واجب العمل الذي يأخذ عليه أجرا، أو يقعده عن النفقة الواجبة على العيال، أو ضياع صلاة الصبح، ومثله صوم النافلة الذي يقعد عن الواجبات الشرعية كواجب وفاء العامل بحقوق عقد الإجارة.

2-المصالح شرعا متعدية للعموم:

إن المصالح المعتبرة شرعا لا يقتصر نفعها على صاحبها، بل تتعدى لغيره كقيام المسلم بالعمل من بيع وإجارة فهو يعود عليه أولا ثم يعود على غيره ولا يكون فئويا لأصحاب البنوك، أو لحزب أو جماعة، فعلى فرض وقوع الضرر بالمضرب عن الطعام فإن هذا يعود بالضرر على جسده ثم على دينه بالنقص  وعلى عموم المسلمين بالنقص، ولو عاد على جسده ودينه بالصلاح لكان ذلك متعديا إلى العموم أيضا.

3-المصالح شرعا محددة بأصول الشريعة:

لا شك أن غير المسلم يدرك المنافع والمصالح الدنيوية لكنها لا يدركها من حيث هي شرعية، فالمسلم يبيع من غير ربا، لأن المحدد لمفسدة الحرام ومصلحة الحلال هو الشارع، فهو داخل تحت الشرع ابتداء، وقد يخل بالبيوع ويرتكب منهيا فيها مع إقراره بأنه تحت الشريعة، أما الكافر فهو وإن أخذ ببيع صحيح من الناحية الشرعية إلا أنه لا يقبل الدخول تحت الشرع، فيكون قد وافق الشرع من حيث العادة، لا من حيث إنه قاصد له، ومن هنا تعلم الفرق بين المضرب عن الطعام يظنه شرعا ودينا، وبين الكافر الرافض الدخول تحت الشرع ابتداء، فإن المسلم الذي قصد الشرع ولم يجد من يبين له، وفقد المجتهد بسبب لبس الحق والباطل، فإنه يعذر في الإثم، وإذا بين له تبين عندئذ وجب عليه الدخول تحت الحق المعين.

خامسا: الأصول الشرعية الضرورية:

الأصول الضرورية في البحث هي أصل الدين وأصل النفس، وهل المصالح بوصف المناسب الشرعي يرجح على أصل حفظ نفس المضرب عن الطعام ودينه، مع العلم بأنه لو اختل ضروري النفس لأدى الاختلال ضروري الدين إذ لو تلفت النفوس لم يبق من يعبد الله تعالى، ولو ذهب العقول لم يبق تكليف بالطاعة فهي أمور مفصولة بالذهن، لكنها في الإضراب عن الطعام موجودة جميعا، مع المصالح بالاعتبار الذي ذكرته آنفا ، وهذا فيه ثلاثة:

1-ضروري الدين:

يعتبر ضروري الدين هو أعلى رتب الضروري، وعبر عنه الفقهاء بالجهاد حيث يضحى بالنفوس والأموال لحفظ الدين لأنه لو ظهر العدو على المسلمين فإنه يستبيح دينهم ويمحو عقيدتهم، ويتعدى على نفوسهم وأموالهم، كما هو الحال في العدو الجاثم على أرض فلسطين الذي لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة ولا يرعى حرمة لمقدساتهم كالمسجد الأقصى.

2-ضروري النفس:

يتعرض المضرب عن الطعام إلى أضرار جسدية حالة ولكنها متفاوتة بحسب المدة التي يضرب فيها، ودخول المضرب عن الطعام في الضرر الجسدي، من عدم القدرة على القيام كأداء الصلاة، مؤثر في ضروري الدين  في جانب العدم، لأن أصل الصلاة من ضروري الدين، فإذا زالت الصلاة اختل أصل الدين.

3-ضروري العقل:

مع تقدُّم المضرب عن الطعام في الإضراب تزداد الآثار لتمتد إلى الغيبوبة المسقِطة لوجوب الصلاة، والتي لها آثار بدنية ونفسية على المسلم، تحول دون قيامه بالواجبات الدينية والدنيوية، ومن المعلوم في المذهب قياس المسائل على المسائل، ومسألة تقديم الصلاة على الحج إذا كان الحاج يصاب بالدوار في السفينة، ويؤدي ذلك إلى سقوط فرض الصلاة.

-جاء في مواهب الجليل في شرح مختصر خليل( وقال ابن المنير في منسكه: اعلم أن تضييعه لصلاة واحدة سيئة عظيمة لا توفيها حسنات الحج بل الفاضل عليه؛ لأن الصلاة أهم، فإن كانت عادته الـمَيْد ولو عن صلاة واحدة بركوب البحر أو الدابة ترك الحج بل يحرم عليه الحج إذا لم يتوصل إليه إلا بترك الصلاة) وهذا في ضروري الدين الذي هو فوق الجسد فكيف بالإضرار معه بالجسد والعقل، من أجل مصالح مظنونة في أحسن أحوالها هي إطلاق سراح المضرب عن الطعام.

سادسا: قاعدة الترجيح:

الترجيح فرع التساوي، فالضرورات الحالَّة  راجحة على المصالح ولو متيقّنة أو عامة، وهذا ليس بمعنى الترجيح الأصولي الذي هو فرع التساوي، بل هو كترجح الخاص على العام والرخصة على العزيمة، لأن رعاية الضرورة في الدين والنفس والعقل راجحة على المصالح بكافة أنواعها، ودرءُ المفاسد عن الضروريات أولى من جلب المصالح لها، ومن باب أولى أن يكون درء المفاسد عن الضرورات كالدين والنفس والعقل للمضرِب مقدما على رعاية المصالح له، إذ لا يتصور التعارض بمعنى التساوي بين الضروري ودون في الرتبة من حاجي وتحسيني.

سابعا: أوصاف لا تؤثر في الحكم:

لا يجوز الزعم بأن الإضراب يحكم عليه من خلال مكاسبه في الإفراج، أو أثره في الموت، فإذا حصل الإفراج أيدناه، لأن النتائج متأخرة عليه، فلا تكون علة له، والعلة سابقة على المعلَّل، والبحث هو في الدخول في الإضراب ابتداء ليس باعتبار المكاسب المظنونة أو المتوهمة أو نتيجة الوفاة، فلو افترضنا أن الشرع أذِن في الدخول في الإضراب فلا يُلام العبد شرعا في النتائح، وعلى فرض أنه حرُم الإضراب فلا فائدة من المكاسب والمصالح عندئذ، لأنها تكون مصالح بالاعتبار العادي لا بالاعتبار الشرعي.

ثامنا: الفلسفة الغربية في الإضراب:

إن الفلسفة الحداثية لا يوجد فيها حق متعين وإنما تؤخذ الدنيا غِلابا، والمكاسب مرهونة بقوى الضغط، وهي تقوم على أن الجسد ملك الإنسان وليس ملك الله تعالى، وأن المصلحة هي المنفعة حيث تكون مفيدة، فهذا المثلث المعرفي هو أصل الإضراب بأنواعه، فلا إشكال في الإضراب وهو حق من حقوق الإنسان باعتبار أنه لا يوجد حق إلهي أصلا، ولا يضر في زعمهم هلاك الإنسان في الإضراب، لأن الجسد ملك الإنسان، وتصرف المضرب عن الطعام في ملكه.

تاسعا: البديل الشرعي:

1-تخليص الأسير من العدون فرض كفاية على الأمة، ولا يجوز الركون إلى وسائل ضعيفة في تحرير أسارى المسلمين.

2-تضافر الجهود الشعبية والحكومية والمؤسسات في إشهار بغي الاحتلال وعدوانه والضغط لرفع الظلم عن المظلومين وخصوصا الأسارى لدى الاحتلال.

3-إن استنزال النصر من الله تعالى يقتضي أن تقف الأمة على قدم العبادة، وأنها عندما تأوي إلى ربها في القيام بأوامره واجتناب مناهيه هي الوسيلة العليا لتخليص الأمة من مشكلاتها الكبرى في الاحتلال الغاشم، وتبعا لذلك تنحل بقية المشكلات التابعة.

4-إن غرق المسلمين في الأسباب الدنيوية زادهم غرقا في مشكلاتهم، وإن الوقوف على قدم العبادة الصادقة، وبسط الوجه إلى القبلة والجبهة في السجود، هو السبيل الذي يقوي المسلمين وصَفَّهم الواحد في استنزال النصر حسب قانون النصر(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).

5-خطورة التسييس من الجماعة والحزب والدولة للموضوع الفقهي بعيدا عن النقاش الفقهي، مما يطيل الطريق في معرفة الشرع.

عاشرا: الخلاصة:

إن الإضراب عن الطعام يعود بالاختلال العاجل على ضروري النفس والعقل والدين، وهذا مقدم على مصلحة خاصة تكميلية ولو متيقنة في الآجل، هذا بالإضافة إلى التحذير من الخلفية الفلسفية الدنيوية للإضراب، وضرورة التفريق بين المصلحة العادية والشرعية للوصول إلى حكم الشريعة، هذا ما توصل إليه الباحث، في بيان أصول هذه المسألة.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

17-شوال -1444

8-5-2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top