هل تديُّن الغلاة والجفاة صناعة الواقع أم أدلة القرآن: وما خطورتهم على “أهل السُّنة” والعُمْران

المُلخَّص

جاء الأنبياء عليهم السلام ليبينوا عن الله تعالى، ولكن واجههم واقع بالغ التأثير في الناس، فشهوة التدين العارمة أصبحت هوى واجب الالتزام، بينما شهوة الجسد والتحلل أصبحت ضرورة لا يجوز الخروج عليها، واخترع كل منهم لهواه أسانيد من الدين، وبقي تأثير الواقع يتمدد في عالم التدين المزيف، ولم يكن هذا بعيدا عن الطوائف الإسلامية في صدر الإسلام حيث ظهرت أمراض الواقع غلوا وتحللا، فظهر الغلو في الخوارج، والتحلل في المرجئة، واستند كل منهما إلى أدلة من الشرع في شكل من الاجتزاء بعيدا عن الأدلة والاستقصاء، حيث اجتزأ الغلاة نصوص العذاب والوعيد، وعطلوا نصوص الوعد والشفاعة، وسعَوا بالسيف في المسلمين، دون مراعاة قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتزأ المرجئة نصوص الوعد والشفاعة، وعطلوا نصوص الوعيد والعذاب، ووفق الله أهل السنة والجماعة للجمع بين الوعد والوعيد، وعملوا بكل ما جاءهم عن ربهم ونبيهم، وأقاموا الحضارة والعمران وشهدت بذلك الأعداء والأصدقاء.

أولا: الغلاة يكفِّرون المسلمين بالذنوب:

عندما فشت المعاصي والظلم في المجتمع، كانت ردة فعل الخوارج هو تكفير أصحاب الذنوب، واختطفوا نصوص الوعيد بالعذاب والوصف بالكفر على العصاة، ولكنهم عطلوا نصوص الوعد بالمغفرة والشفاعة للمسلمين، وأن أصحاب الكبائر من المسلمين هم تحت المشيئة، فإن شاء الله عذبهم فبعَدلِه، وإن شاء غفر لهم فبفضله، ورحمته سبقت غضبه سبحانه وتعالى، فتَجاهُل الخوارج لأدلة الوعد، يعني أنهم آمنوا ببعض الكتاب وردُّوا بعضه، وذلك بسبب وقوعهم تحت تأثير تدين الهوى المزيف، وقد كشفت أدلة الوعد أنهم متلاعبون في الدين، فآيات الوعد والوعيد كلاهما من الله تعالى، ومن شابههم في طريقتهم من المسلمين اليوم، فإن فيه لوثة من لوثاتهم حتى يدعها ويعود للسنة.

ثانيا: المتحللون حالة مزرية من تبرير الواقع:

أما المرجئة فهم النسخة المقابلة للخوارج، فهي طائف أخرجت العمل من الإيمان، واعتبرت العصاة والمؤمنين سواء، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو جانب الهوى الجامح لتحويل العصاة من أهل الكبائر إلى مؤمنين كاملي الإيمان، فلا فرق بين إيمان أصحاب الكبائر اليوم وإيمان كبار الصحابة رضي الله عنهم، وهو باب عظيم من أبواب التحلل، سببه أنهم أخذوا آيات وأحاديث الوعد بالعفو والمغفرة والشفاعة والمثبتة لإسلام العصاة، وعطلوا آيات الوعيد الشديد لأصحاب الكبائر، والنصوصَ التي تبين أن العمل من الإيمان، اتباعا لأهوائهم في إضفاء الشرعية على واقع متحلل من الشرع، فكان الواقع مهيمنا على تدينهم، ومن شابهم من المسلمين اليوم في عزل العمل الصالح وفصله عن الإيمان، فإن فيه لوثة من لوثاتهم حتى يدعها ويتوب منها.

ثالثا:المشترَك بين الغلاة والجفاة كلاهما صناعة الواقع لا صناعة الأدلة الشرعية:

إذا تأملت فيما سبق وجدت أن الفِرق والطوائف البالية، هي أمراض إنسانية يهيمن عليها الواقع باسم التدين، ولكنه تدين يصنعه واقع فاسد، فتكفير المجتمع بذنوبه هو ردَّة فعل على الواقع  واتباع له، لا علاقة له بالأدلة لأنه عطل أدلة الوعد والشفاعة، وهذا شأن الخوارج الغلاة، أما المرجئة فقلَّلوا من من شأن العمل الصالح لأن لا يدخل في الإيمان عندهم لأن الإيمان هو التصديق فقط، الإيمان بحجة، وهذا موقف تبريري لواقع فاسد يخلع عليه صفة الإيمان الكامل، ويعطل الأدلة الشرعية، في الوعيد الشديد بالعذاب لأصحاب الكبائر.

رابعا: أما أهل السنة والجماعة فجمعوا الأدلة فجمع الله بهم المجتمع:

أما أهل السنة والجماعة فلم ينصاعوا يوما في معتقدهم لتأثيرات الواقع، الذي يمكن أن تُعَطَّل به الأدلة الشرعية، فوفقهم الله تعالى للجمع بين أدلة الكتاب والسنة جميعا فأثبتوا الوعيد لأصحاب الكبائر من المسلمين، لما ورد فيهم من الوعيد الشديد، ولم يخرجوهم بالذنوب من الإسلام، لما ورد فيهم من الوعد بالمغفرة والرحمة تحت مشيئة الله تعالى، فبمحافظتهم على العمل بجميع أدلة الكتاب والسنة وعدا ووعيدا، جمع الله بهم الأمة والمجتمع خاليين من غلو الخوارج في التكفير،وتحلل المرجئة في التبرير، وعليه أصبح الكتاب والسنة هما ركائز استقرار المجتمع، وسلامته من تحريف الغلاة وتزييف الجفاة.

خامسا: انقلاب أحوال هذا الزمان… لكم الله يا أهل السنة:

1-يصر الغلاة مع مفارقتهم ما عليه السلف الصالح، على تكفير المسلمين بالأفعال المحتمِلة، وحملها على الكفر الأكبر والخروج من الإسلام، بناء على فهم مغلوط لقاعدة أهل السنة والجماعة: أن “الإيمان قول وعمل”، فاتفقوا مع أهل السنة في اللفظ وهو الإيمان قول وعمل، ولكنهم وافقوا الخوارج في المضمون، فكفَّروا بالذنوب نتيجة لفهمهم المغلوط لعقيدة أهل السنة: “الإيمان قول وعمل”، ودَسُّوا تحت قول أهل السنة “الإيمان قول وعمل” فهما مغلوط وهو التكفير بالذنب دون التفات للاعتقاد كالجحود والتكذيب على أصل من أصول أهل السنة والجماعة.

2-وإذا اعتبر الغلاة أنفسهم أهل الحق، اتهموا أهل السنة والجماعة بالإرجاء، لأن أهل السنة لم يكفِّروا بالذنب، وإذا اعتبر المرجئة أنفسهم أهل الحق اتهموا أهل السنة بأنهم غلاة، لأن أهل السنة يعتبرون العمل من الإيمان، والمرجئة لا يعدون العمل من الإيمان، فأهل السنة يقولون الإيمان قول وعمل، ولا يُكفَّر أحد من المسلمين بذنب ما لم يستحِلَّه، فهما مسألتان مختلفتان عند أهل السنة والجماعة، لَـبَّس بهما الشيطان على الغلاة المحرفين وعلى الجفاة الـمُبْطِلين.

سادسا: خطورة الغلاة والجُفاة على العُمْران:

إن الجفاة المتشبهة بالمرجئة، يتوهمون أن العمل لا علاقة له بالإيمان، يُضْعِفون بناء المجتمع، فهم يرتكبون الموبقات، ويفرطون في الواجبات، التي هي أصلا أعمدة لإقامة العمران، وتحقيق الاستخلاف في الأرض، فهم قوم جنحت بهم شهواتهم وأخلدوا إلى الأرض، وأصبحوا عبئا ثقيلا على نمو المجتمع معرفيا واجتماعيا واقتصاديا، وتحللهم من واجبات الشرع وانتهاكهم محرماته، يسخنون به رؤوس الغلاة الذين يرغبون بالتغيير السريع بالقوة العنيفة، خلافا لقواعد إنكار المنكر في الشريعة وتدرُّجات إنكار المنكر، وترتيبات المسؤوليات الشرعية في ذلك ، مما يعني دخول المجتمع في دُوّامة العنف والعنف المضاد، مما يهدِّد مجتمع العمران القائم على أصول الشريعة.

سابعا: لا يجوز للأفراد تنفيذ العقوبات بأنفسهم:

إن مجتمع العمران القائم على أصول الشريعة، له أصوله في إنكار المنكرات، فلا يجوز إنكار المنكر بمنكر أشد منه، ولا يجوز للأفراد أن يستولُوا على صلاحيات الدولة، فإن في ذلك من إثارة الأحقاد والضغائن والفتن ما لا يخفى، وأحببت هنا أن أذكر قول الإمام الجويني (ت 478 هـ) في هذا الشأن من كتابه: غِياثُ الأمم في التِـياث الظُّـلَم (ص: 387):

(وَنَهْيُنَا الرَّعَايَا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِالْأَنْفُسِ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْثَاثِ عَلَى مَا هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الصَّلَاحِ، وَالْأَدْنَى إِلَى النَّجَاحِ، فَإِنَّ مَا يَتَوَلَّاهُ السُّلْطَانُ مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ أَوْقَعُ وَأَنْجَعُ، وَأَدْفَعُ لِلتَّنَافُسِ، وَأَجْمَعُ لِشَتَاتِ الرَّأْيِ، وفِي تَمْلِيكِ الرَّعَايَا أُمُورَ الدِّمَاءِ، وَشَهْرَ الْأَسْلِحَةِ، وَجُوهٌ مِنَ الْخَبَلِ لَا يُنْكِرُهَا ذَوُو الْعَقْلِ).

الطريق إلى السنة إجباري

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة

عمان المحروسة

30-9-2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top