الجهاد بين دين بلا وطن ووطن بلا دين (قراءة مقاصدية في بناء الإنسان والأوطان)

1-المشكلة: تناقضات وهم التديُّن والحداثة وتفريغ الشريعة:

ترفض الحداثة القتال لأسباب دينية، كما يرفض الغلو في الدين القتال لأسباب وطنية، لأن الحداثة تريد وطنا بلا دين، والغلاة يريد دينا بلا وطن، فيجعلون القتال من أجل الوطن شِركا بالله تعالى، وهذا التناقض المستورَد يؤدي إلى ضياع التدين، لأن المتناقضَين يهدِم أحدُهما الآخر، فالحداثة تريد أن تفسر سلوك العبد على وفق رؤيتها الكلية باستبعاد التشريع الإسلامي، والغلاة يريدون إلغاء القصد الثاني للشارع بمراعاة الجبلة في الجهاد من أجل الوطن ، ويطلقون عليه الشرك بالله، مع أن الشريعة راعت تلك الجبلة في الجهاد لكن بالقصد الثاني، ونلاحظ أن الحداثة والغلو في الدين كلاهما ينتهي إلى الانحلال من الشريعة، حيث تنحل الحداثة من القصد الأول، ويتحلل الغلاة من القصد الثاني، ومجموعهما إلغاء الشريعة بالكلية، وفيما يأتي أبين مقاصد المكلف بالجهاد في مجال الجبلة والتعبد.

2-وجوب مراعاة التعبد بالقصد الأول:

أما الشريعة فلها في الجهاد القصد الأول، وهو التعبد لله تعالى (مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، ونفى أن يكون من الجهاد شرعا القتال للذكر الجميل على لسان الناس، وللمغانم التي هي مكاسب المعركة، وهو نفسه الدليل الصحيح الذي هدم به الغلاة القصد الثاني للشارع، وجردوا الإنسان من نوازعه الطبيعية كالإنسان الآلي، وهو المجاهد (الروبوت) الخالي من الجِبِلَّة.

 3-مراعاة الجبلة في الجهاد بالقصد الثاني:

وبالرغم مما ورد بالقصد الأول في ثانيا، فقد قال تعالى: (وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا) ،  وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن قتل قتيلا فله سلَبُه)، فجاز للمؤمنين في الجهاد أن يقصدوا للغنيمة التي وعدهم الله بها لأنه وعدهم بها، وقال إبراهيم عليه السلام ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) فقد طلب الذكر الجميل في الدنيا، وإن المجاهد لا يخلو في طبعه أن يطلب المجد والعزة لنفسه وهو أمر في طبيعة المقاتل من الأنفة والكرامة، ولا يمكنه أن يتخلى عن طبيعته البشرية، والحداثة تجعل الغنيمة والتوسع هي القصد الأول ولا تقبل بقصد الشارع للتعبد، بسبب رؤيتها الكلية بعدم جواز أن يكون الدين أو الأخلاق حاكما في السياسة.

4-وجوب الترتيب بين القصد الثاني والأول:

وما ورد في ثانيا أعلاه، هو مراعاة القصد الأول للشارع في التعبد، فلا يجوز أن تكون حظوظ العبد بالقصد الأول، بل ينبغي أن تكون بالقصد الثاني، وما ورد في ثالثا هو مراعاة الشريعة لحظ العبد بالقصد الثاني التابع للقصد الأول، وعليه يكون ترتيب الجبلة والطبيعة بحيث تكون تابعة للقصد الأول، وليس إلغاءً للطبع وتحويل المجاهدين إلى ألواح خشبية والعبادة الآلية التي تجرد الإنسان من ميوله الطبعية، وهذا هو الجمع بين الأدلة التي للتعبد بالقصد الأول، والتي لحظ العبد في القصد الثاني، ويرتفع بذلك وهْمُ التعارض.

5- الأديان الباطلة لم تراعِ القصد الثاني:

ما حصل في الأديان المحرفة والوضعية أنها جعلت التقشف والخروج من طبيعة الإنسان للسمو الروحي هو التعبد، مع تجريد الإنسان من طبيعته وجِبلَّته، مما أدى فيما بعد إلى النقمة على الدين، وإلغاء الدين نفسه، وتحويل الشهوات إلى القصد الأول والنهائي في الحداثة، يعني أن تجريد الإنسان من طبيعته التي خلق عليها من أجل التعبد، هو نفسه الذي سيهدم قصد العبادة بسبب الغلو، فعلينا أن نخاف من الغلو في الدين الذي هو سبب لهدم الدين نفسه، وهذا هو الذي جعله الغلاة الشرك، وسَمَّو ا الوطن وثنا يعبد من دون الله، بسبب تشابه نصوص الشريعة عليهم، وتوهم التعارض بين القصد الأول والثاني، وكان ذلك سببا في إضعاف الدين في المجتمع، لتجافي الغلاة في التكفير  عن القصد الثاني للشارع.

6-القصد الثاني خادم للأول وليس العكس:

إن الشريعة لم تراعِ طبع الإنسان اعتباطا، لأن الميل للطبع هو الهوى المذموم شرعا، وعندما يتقدم الطبع المعتبَر بالقصد الثاني لهدم التعبد المعتبَر بالقصد الأول، يكون العبد قد خرج عن إذن الشارع، فحب الوطن وفلسطين وطلب العزة والأنفة، واسترجاع الأرض يجب أن يبقى بالقصد الثاني، ولا ينافي التعبد، بل إن القصد الثاني خادم للتعبد ومعين عليه، فحب الأوطان سبب للدفاع عنها وعزتها، وبذلك يمكن أن يقام التعبد بالتكاليف الشرعية كلها، وأما إذا تغَوَّل القصد الثاني وصار الأولَ، فيخرج العبد عندئذ عن مقاصد الشارع، ويصبح تحت هواه لا تحت قصد الشارع.

7-خطورة تحوُّل القصد الثاني إلى القصد الأول:

إن مراعاة الجبلة بالقصد الثاني تصبح خطرا إذا تحولَت إلى كونها هي المحرك الأول، ويصبح الشرع خادما والطبع مخدوما، ويصبح دور  الدين دورا وظيفيا، فالجهاد عندئذ وسيلة لقصد الذِّكر والغنيمة، والإسلام سيارة إسعاف للوصول إلى الدنيا، والوطن سيد والدين مَسُود، ثم تُلقَى سيارة الإسعاف إلى جانب الطريق، بعد الوصول للمكاسب الدنيوية، فهذا هو الزيف المقدس، ظاهره الدين وباطنه الدنيا، وحالة من انتفاخات التدين التي تتحول إلى انتكاسات وهزائم سياسية وعسكرية بالرغم من كثرة مظاهر التدين المزيف، التي قلبت القصد الثاني وجعلته الأول، وصار الدين وسيلة للدنيا، وليست الدنيا وسيلة إلى التعبد الذي هوالقصد الأول.

8-طرق الكشف عن الزيف المقدس وانتفاخات التديُّن:

-إن النفس البشرية تشعر بحاجتها للتدين، وقد تختار ما تشاء وتدع ما تشاء على طريقة تدين (البوفيه) المفتوح، فيأخذ الجهاد لما فيه من الأنفة والعزة والدفاع عن الأرض، لأنه يناسب شجاعته ويستصغِر الصلاة وذكرَ الله تعالى، حتى إذا حمل السلاح تحوَّل إلى قاطع طريق يقتل به المسلمين الأبرياء، خارجا عن الشريعة نفسها، ليصل إلى مكاسب سياسية، بتأويلات فاسدة للنص الديني الذي صار خادما لا مخدوما.

 -فالاعتداء بسبب وفرة القوة عند المقاتل لتحصيل المكاسب، دليل على أن قتاله ليس جهادا، بل هو لدنيا يصيبها، أما الجهاد عنده فهو إعلامي من باب الشائعات ولا حقيقة له، لذلك لا عبرة بالمكاسب في القتال إذا كانت على غير سَنَن الشريعة، لأن ذلك القتال للدنيا والدين مطية للوصول للدنيا، فعند الله مغانم كثيرة لكن بالقصد الثاني لا بالقصد الأول.

9- ما على هذا اتّبعتك ولكنّي اتّبعتُك على أن أُرمى ها هنا:

كما ذكرتُ فيمن تصدق بأضحيته كلها، وأن هذا منصب أصحاب العزائم، الذين تخلَّوا طَوعا عن القصد الثاني الذي شرعه الله لهم، وجعلوا أنفسهم في مالهم كالوكلاء في مال الله لعباد الله، فهذا الأعرابي الذي أسلم حديثا، تخلى طوعا عن حقه في المغنم لأجل المغنم الأكبر في الجنة، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله هو الأفضل وقال له: (إن تَصْدُقِ الله يَصْدُقْك)، حتى إذ جَدَّ القتال وإذا بالأعرابي يُستشهَد ويُرمى بسهم حيث أشار بيده (أن أُرمى ها هنا)، فهذه خصائص أولي العزم من المؤمنين، وهي لا تنقض فعل الصحابة الذين أخذوا حظهم من المغنم، لأن هذا أيضا أقره النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الاتساع في الشريعة لأنها تخاطب أولي العزم وأولي الرخصة في آن واحد، وهم جميعا تحت قصد الشارع.

10-اختراع التعارض ووهم الترجيح:

تتعارض نصوص الشريعة بين يدي المعلم شكوكو وابن الجيران، والصراع بينهما يؤدي إلى تهادم أدلة الشريعة لأن كليهما تتشابه عليه ظواهر الكتاب والسنة، لكنهما غير قادرَين على تقرير الأصول الصالحة التي تُرتَّب على  وفقها أدلة الشريعة، بحيث يُعمَل كل دليل في محلِّه، فهذا الدليل مثلا بالقصد الأول، وذاك بالقصد الثاني كما علِمتَ سابقا، ولا مُوجب لموهِبة الترجيح عند ابن الجيران، لأن ترجيحه هو نَقْضٌ لدليل شرعي آخر مع إمكان إِعماله في محله، وهكذا تضيح الشريعة وترتفع بالصراع بين المعلم شكوكو وابن الجيران، والسبب في ذلك أن مبحث الاجتهاد على طريقة المعلم شكوكو وابن الجيران صار من دورات التنمية البشرية وتحقيق الذات.

11-تفسير السلوك الإنساني وفق الشريعة:

تنظر الحداثة بمختلف فروعها المعرفية إلى الدين نظرة سلبية فيما يتعلق بسلوك الإنسان ونفسه، وهي عاجزة عن وضع نموذج تفسيري شامل لسلوك الإنسان لقصور نظرتها في السلوك على الجانب الطبيعي، ووضع نماذج تعديل السلوك على  وفق تلك النظرة المادية سواء  في طبْعِ الإنسان العُضوي أو المعنوي، وإن النموذج الأمثل لتعديل السلوك وإصلاح الإنسان، هو شرع الله تعالى الذي أقسم بقوله:  (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا).

12-هل بناء الوطن بالقصد الثاني أم بالقصد الأول:

لا يصح الكلام بالإطلاقات في علاقة الدين بالوطن، دون الوضوح في ترتيب التفاصيل الجزئية، لأن ذلك يؤدي إلى اللبس والغموض من أجل حشد الجماهير تحت شعارات عامة، تناسب الدَّهريين والمسلمين معا، ولكن لا بد من إعادة بناء علاقة الوطن والمواطنة في ضوء القصد الأول والثاني للشريعة، فنحن نعبد الله على أرض الوطن، ولا نعبد الوطن على أرض الله، ولكن يمكننا جعل الوطن بالقصد الثاني ليكون خادما للقصد الأول وهو التعبد، وأن نحافظ على أوطاننا تحت إذن الشريعة، لا بالانقلاب عليها، فنحن نزرع ونصنع ونبني أوطاننا بالقصد الثاني الخادم للقصد الأول، فيصبح بناء الأوطان مستندا لقوة الدِّين الهائلة، بدلا من  أن يُهدم الوطن باسم الدين، وينبغي وقف الرعْي الجائر للحداثة في الدين باسم الوطن، والغلاة في هدم الوطن باسم الدين.

##الخلاصة:

1.      إن الله تعالى راعى تفضُّلا ورحمة منه طباع عباده.

2.      إن الحداثة ساذجة في الممارسة وهي تعزل الإنسان عن سموه الأخلاقي، وتجعلها شيئا كغيره، وغلاة التكفير الذين فارقون الجماعة بالتكفير بالممارسة في مسائل الحاكمية والولاء والبراء ساذجون في عدم مراعاة مشاعره الجبلية،  وهو قدر مشترك بينهم وبين الحداثة، لأنهم جعلوا الجهاد من أجل الوطن جهاد في سبيل الوثن، في قراءة ساذجة للنص الشرعي وتشابه عليهم النصوص بسبب السذاجة.

3.      إن الاجتهاد المقاصدي قبل أن ينظر للمارسة الساذجة للدولة والإنسان، نظر إلى عمق البناء الفكر ي الأخلاقي والجبلي للإنسان من خلال استقراء نصوص الكتاب والسنة، والجمع بين معانيها،  ويخلص إلى نموذج كامل يتخلص من تفاهات الحداثة ومتشابهات رجال الدين المعاصرين الذين أصدروا صكوك حرمان من الجنة بتتبع المتشابهات على طريقة المعتزلة في مسائل الحاكمية والولاء والبراء، ونقض إجماعات أهل السنة، الذين أجمعوا أن الكفر  جحود معلوم من الدين بالضرورة، وليس بمجرد الممارسة الفعلية مع الإقرار بأحكام الشريعة.

4.      إن الشريعة تتمركز حول الإنسان طبعا وأخلاقا بصفته مكلفا من الله تعالى المعبود الحق، وأن التراب الوطني خادم لهذا التكليف، أما الحداثة فهي مطحنة الإنسان بين أنياب تناقضات مصالح القوميات والتراب الوطني الذي تحدده حغرافيا الحروب، مما يعني ضرروة استرداد الإنسان وإخراجه من هذه المطحنة.

5.      لم تراعِ الشريعة الجبلة مطلقا ولم تهمِلها مطلقا، بل راعتها بالقصد الثاني.

6.      للعبد أن يتخلى طوعا عن حظه في القصد الثاني ويبقى مع القصد الأول فقط، وهو مذهب أهل العزائم.

7.      يشترط لصحة اعتبار القصد الثاني شرعا، أن يبقى تابعا للقصد الأول وهو التعبد.

8.      إذا تعدى العبد من القصد الثاني وجعله متبوعا والأول تابعا فهذا هو الهوى الذي نهى عنه الشارع، وهو سبب انتكاس الكثير من الحالات الدعوية التي راجت في إسلام السوق.

9.      خطورة التدين الاستهلاكي الساذج، الذي يسعى إلى إشباع الشعور الديني من الأشواق الروحية مع خواء واضح في التدين المعرفي، مما يؤدي إلى صدام حتمي داخل المجتمع الإسلامي.

10. الشريعة الوضعية المتوهمة تقوم بسبب سذاجتها على اختراع التعارض بين أدلة الشريعة وتقع في وهم الترجيح وهذا يجعلها إنسانية حداثية متدثرة بدثار الشريعة، وما هي إلى تعبير وجداني فكري عن رأي أصحابها.

11. ضرورة صياغة النموذج الإسلامي الكلي في تفسير سلوك الإنسان، وإعداد النموذج المناسب لتعديل السلوك على وفق نظرية المعرفة.

12. بطلان الدهرية الساذجة التي تبني نموذجها المعرفي على استبعاد الإسلام وتجعله في سلة الأديان الوضعية والمحرفة، وتعيد إنتاج فكر المواطن حسب مواصفات القطاع العام ومعايير الجودة، فالله تعالى أوْلى بنا من أنفسنا، وأرحم بنا من أمهاتنا.

13. الفكر المقاصدي يجمع بين الأدلة الجزئية والكلية، ولا يخرج في بنائه عن أصول الفقه وأصول الدين، وتصور فكر مقاصدي خارج هذه الأصول هو  وهم تلتبس فيه مقاصد الشريعة بالدنيوية.

14. عزلة الدعوة الإسلامية عن الفقه الإسلامي والذهاب كل مذهب مع المنفعة والمكاسب المؤقتة سبب في انتكاسات الدعوة.

مقالات ذات علاقة:

مرجعية الفكر اللاديني للدولة سبب لتدمير الإنسانية …ولكنّ الجهاد مختلف

قضية فلسطين على دَرْب  البلاء الـمُبِين

أسباب اضطراب الفتوى في مسائل الدولة والسياسة (نَظرة فقهية أصولية)

تحميل المقال بالوسائط 

الروح المسافرة

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

25 -ذي الحجة-1444

 14-7-2023

1 thought on “الجهاد بين دين بلا وطن ووطن بلا دين (قراءة مقاصدية في بناء الإنسان والأوطان)

  1. أغسطس 9, 2023 - غير معروف

    خطورة التدين الاستهلاكي الساذج، الذي يسعى إلى إشباع الشعور الديني من الأشواق الروحية مع خواء واضح في التدين المعرفي، مما يؤدي إلى صدام حتمي داخل المجتمع الإسلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top