أصول الفقه خريطة التفكير الإنساني

1-خبر مفاجئ:

بلغنا  أنه لم يَبْق من زيت الزيتون في بيتنا إلا  تلك الزجاجة على رف المطبخ، ومنذ ذلك الخبر  وأنا أحدِّث نفسي ماذا لو نَفِدَ الزيت من البيت، فبزيت الزيتون الذي نُغَمِّس الفول والحمص، ونقلي البيض ونطبخ الأقوات كلها، ولنا فيه مآرب أخرى من الادهان به والدواء، فأصبحتُ في المطبخ خائفا أترقب، كيف يمكن لي أن آكل شيئا دون إغراق الصحن بزيت الزيتون كالمعتاد، وأصبحت أنظر إلى نقصان الزيت من تلك الزجاجة وكأنها أيام  تنقص من عمري.

2-ليس من سمع كمن رأى:

ثم رجعت إلى ما كنت أشرحه في عِلل الربا  بأنها في القوت المدَّخر  كالقمح أو مصلحِ القوت كالزيت، فوجدتني أتحدث كلاما نظريا، دون شعور حقيقي مني بضرورة القوت ومصلح القوت، أما الآن فقد شعرت بعظمة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (والملح بالملح)، في حماية مصلحات القوت، وهو من باب دلالة التنبيه، ذكر نوعا وهو الملح، وأراد كل ما هو مثل ذلك النوع من مُصلِحات القوت، كالزيت والبصل والثوم، إذ لا يكمل شرعا حماية أقوات الناس كالبر والشعير  دون حماية ما يُصلح الأقوات كالزيت والملح، لذلك كانت علة الربا هي القوت المدخر أو مصلح القوت، وهي حماية شرعية زائدة على بقية الأطعمة والسلع، لأنها تمس حاجاتهم الأساسية.

3-البلاغ خبر  أغنت شهرته عن سنده:

وبينما نحن في القلق على مُصلح القوت وهو زيت الزيتون،  بلغنا أن عند أخي صلاح صفيحة(تنكة) زيت زيتون، ولم يكن علمي  ذلك بسند متصل إليه، ولكن ما جرى به العمل ببلدنا أننا ندَّخر فائضا من الزيت للظروف، وشهرة الخبر  في مذهبنا تغني عن سنده، كما هو في بلاغات الإمام مالك في الموطأ، لاسيما أن ادخاز الزيت عندنا عَضَده ما جرى به العمل من ادخار الزيت الذي جرت العادة أنه يُعصر أمام الشهود العدول،الذين يتحققون من صفة الزيتون ونسبه إلمتصل بأرضه التي قطف منها قبل عصره، ولا تسعد العائلة إلا برؤية الفرع وهو الزيت يخرج من أصله وهو الزيتون، وليس من سَمع كمن رأى.

4-البلاغ ما جرى به العمل يتفق مع السند الصحيح

بذلك الخبر المشهور  بصفيحة الزيت، وما جرى به العمل اطمأنت نفسي إلى وجود الزيت عند أخي صلاح، فلا شئ يفوق ما جرى به العمل والخبر الذي أغنت شهرته عن سنده المتصل، فلما زُرت أخي صلاح، قلت له: بلغنا أن لديك صفيحة زيت زيتون، فقال: اللهم نعم، فأنا ادخرتها للحاجة،  بعد أن أهديت زيتا كثيرا، قلت الحمد الله اجتمع لي السند المتصل، والبلاغ الذي أغنت شهرته عن سند، وما جرى به العمل، وذكرني ذلك بالإمام ابن عبد البر الذي وصل بلاغات مالك، فاجتمع لمذهبنا البلاغ، والعمل، والسند، والحمد لله على النعمة.

5-شَرُّ التجديد ما يضحك:

 وفي الوقت نفسه تذكَّرت بعض أخبار  التجديد الديني الطريفة والنادرة في زماننا، وهو ما قامت به فصيلة الورقيات بتأليف ما يسمى بضعيف الموطأ الذي ضعف بلاغات مالك وهما بانقطاع سندها، حسب الصناعة الورقية المعاصرة ، وذلك لفقره بأصول إمامنا رضي الله عنه، فلا يدري أن شهرة بلاغات مالك أغنت عن سندها، وأن ما جرى به العمل المتصل من السلف هو دليل لا يقبل النسخ والتخصيص والتقييد، فهو أقوى من القول، وقد شبهت هذا اللون من التجديد الديني بمن طور الطائرة المروحية فأبدل مروحة الطائرة بالمكيف، بسبب جهله بصناعة الإمام مالك الفقهية والأصولية في الموطأ .

6-الزيت تكميلي والقوت المدخر  ضروري:

فقلت في نفسي ما أحسن سلامة أصول المذهب في اجتماعها، وما هو أجمل من ذلك أنني شعرت بفضل هذه الشريعة في أنها لم تحفظ القوت فقط بل حفظت مصلح القوت، إذ لا يكمل حماية الضروري وهو القوت كالتمر والبر إلا بحماية التكميلي وهو الملح وما في حُكْمه كالزيت والبصل والثوم، فشعرت بقيمة المقاصد لدى الإمام الشاطبي في تصنيف الضروري والتكميلي، بناء على الفقهي، ثم الفقهي المبني على أصول النظر في الخبر والعمل، وأنهما يجتمعان ولا يفترقان في مذهبنا الفقهي.

الروح المسافرة

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

9 -صفر-1445

25-8-2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top