الاجتهاد الفقهي في زمن الذكاء الصناعي

تمهيد:

إن الاجتهاد الفقهي ملكة راسخة في نفس الإنسان قادرة على التعامل مع المعاني وعلاقات المعاني بالمعاني والألفاظ بالمعاني، ثم بعد ذلك تولد المعاني من بعضها للوصول إلى الحكم الفقهي، والبحث عن مراد الشارع الذي يكون خلافا للوضع اللغوي في الاستعمالات الشرعية، أما الذكاء الصناعي فهو يتعامل مع خوازميات يراكم بها الألفاظ مع الألفاظ بحسب مجموعات لفظية لُقِّمَت على الشبكة، وهو غير قادر على التعامل مع الملكات والمعاني، لذلك يمكن استخدام الذكاء الصناعي في البحث، لا في كونه بديلا عن الملكات وتشكيل العلاقات بين المعنى والمعنى أو اللغة ومراد المتكلم، ومن الجدير بالذكر أن أذكر هنا أن الذكاء الصناعي يقوم على فلسفة لغوية

أولا: الفلسفة اللغوية التي يعمل الذكاء الصناعي عليها:

ترى فلسفة فتنشتاين (Ludwig Wittgenstein) أن كلمات اللغة مجموعة أجزاء مكونة كالطبيعة، فالكلمة  كاللبِنة وحدها لا تدل على شئ إلا إذا وضعت في الجدار، ولا معنى للكلمة مفردة، بل هي كنعيب الغراب، وهي تدل على المعنى بصورتها الجملة، بصرف النظر عن ثنائية الوضع والاستعمال التي قامت عليها الشريعة، وهذه الفلسفة اللغوية هي جوهر عمل الذكاء الصناعي المعتمد على التعرف على اللغة من خلال خوارزميات معينة، ومجموعات منتخبة من الكلمات الأكثر تداولا وتركبا فيما بينها، واستبعاد مجموعات الكلمات الأقل تداولا، وهذا المبدأ اللغوي يُغفل قصد المتكلم وهو المعنى في نفس المجتهد، ومرادَه من أقواله في إرادته الباطنة، وإدراك  الذكاء الصناعي للمعنى الذي هو قصد المتكلم مستحيل.

ثانيا:  الاجتهاد مَلَكة راسخة لا تصلها الخوازميات:

إن الحكم الذي يصل إليه المجتهد هو نظر في المعاني، والحكم بحد ذاته معنى تولَّد من مقدمات من المعاني أيضا، وليس دور الألفاظ إلا أن تكون وعاء حافظا للمعنى، فالحروف أوعية المعاني، زيادة على ذلك ما يعبر عنه المجتهد من الألفاظ بالبيان والبلاغة، والبيان نفسه ملكة في التعبير عن المعنى، وشعور المجتهد في نفسه بالظن واليقين هي كيفيات نفسانية متفاوتة بين المجتهدين أنفسهم، وهذه المعاني المشهودة للمجتهدين، هي عالم غيب بالنسبة للخوارزميات.

ثالثا: مسائل الفتوى والقضاء أشد بعدا من الذكاء الصناعي:

1-إن نظر  المفتي في المسألة والقاضي في القضية، يكون باعتبارها قضية أو مسألة مشخصة، أي معينة لا تشترك معها مسألة أخرى، باعتبار تشخص حال المستفتي وتقواه وما يصلحه،  والخصم باعتبار أقواله وقرائن أحواله في الكلام في مجلس القضاء

2-إن استماع القاضي للشهود يقتضي أن يكون القاضي عارفا بأعرافهم القولية التي يتضح فيها مرادهم، وهذا يختلف من بيئة لأخرى، من حيث الكنايات والمجازات.

رابعا: مسائل الإيمان والغيب:

إن فلسفة اللغة المناسبة للذكاء الصناعي  فلسفة فتنشتاين (Ludwig Wittgenstein) التي تتعامل مع اللغة بوصفها جزءا من المحسوسات والممكنات ولا علاقة لها بما يخرج عن المحسوسات وعليه لا مجال للغة أن تعبر  عن الإله والغيب الذي لا يدكه الحس في عالم الشهادة، ويكون الخطر أشد إذا علمنا أن في تاريخنا اللغوي فلسفة مشابهة في تفسير الإله ضمن الطبيعة، ووحدة الوجود في فلسفة المعنى المشترك بين الله وخلقه، ولا يوجد ثنائية الشرع والوضع فيها، لذلك ستكون فلسفة التجسيم لإلهٍ صديقٍ للبيئة، عتبةً من عتبات الحداثة في عالم الذكاء الصناعي، وكلما ضُيق على مراد المتكلم وتُمسك بالدلالة الوضعية كان ذكل أقرب لفلسفة   فتنشتاين (Ludwig Wittgenstein) في أن اللغة جزء من الطبيعة في الدلالة، وفي تاريخ الفرق الإسلامية ما هو أشد من ذلك في التجسيم ووجدة الوجود في المعنى المشترك بين الخالق والمخلوق.

خامسا: الذكاء الصناعي ليس بديلا للإنسان:

 بما أن الإنسان يبدأ من المعنى ثم يعبر عن المعنى بتركيب الألفاظ التي هي شيفرة من الحروف المبهمة في نفسها، إلا أن المعنى وملكة البيان في قوله تعالى(عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) تنقل الحروف المعنى إلى نفس الإنسان وتحدث الانفعال بالبيان، وهذا الانفعال والبيان له، هو المعاني الغيبية بالنسبة للخوارزميات، فلا يستطيع الذكاء الصناعي أن يكون بديلا عن ثنائية الوضع والقصد الذي هو المعنى، أما على فلسفة اللغة الطبيعية التي حذرت منها، القائمة على التوسع في الوضع والتضييق على القصد، فعلى الإنسان أن يحفر قبره بنفسه، ويضع الذكاء الصناعي شاهدا على قبره، وسنكون أمام الإنسان الآلة، والإيمان الإلكتروني بالتوحيد القائم على التجسيم والحلول، وهنا ستكون العلوم الإسلامية هي الجدار الحامي ليس للمسلمين فحسب، بل للإنسانية.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا يَنْجبِر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

17 -صفر-1445

3-9-2023

2 thoughts on “الاجتهاد الفقهي في زمن الذكاء الصناعي

  1. سبتمبر 3, 2023 - غير معروف

    بوركتم شيخنا اجدتم وافدتم …

  2. سبتمبر 3, 2023 - غير معروف

    بوركتم شيخنا اجدتم وافدتم ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top