القهوة بِطعْم البَيض

1-ثنائية القهوة بطعم البيض والبيض بطعم القهوة:

أ-نكتة لطيفة ولكنها معبرة عن فلسفة عميقة:

قال لصديقه: تغير طعم القهوة في فمي منذ فارقني الأحبة! فردَّ الصديق: لَم يتغير طعم القهوة، ولكنك تغلي القهوة في غلاية البيض! قد تبدو هذه نكتة، ولكنها فلسفة عميقة، تحكي الذاتية في الخيال النفسي للإنسان، الذي به يكون شاعرا  غارقا في الخيال، ويشعر بأن ساعة الحزن سنين، وساعة الفرح دقيقة، ويكون هذا الخيال والذاتية هي المؤثر في المعرفة.

ب-الإنسان في أسر الطبيعة:

ومن جهة أخرى فإنَّ زعم الصديق أن تغيُّر طعم القهو ة راجع لسبب طبيعي لا علاقة له بذاتية الإنسان وميوله النفسية، بل راجع إلى أسباب طبيعية خارج النفس، لأن الصديق غارق في الطبيعة المادية، ولأن ما خرج عن الحس لا يكون علما، ويتنزع المعرفة من هذه الطبيعة، وتكون النفس عندئذ عبارة عن لَوح أبيض تكتب الطبيعة فيه المشاهدات الحسية.

ج-أمثلة على ثنائية الذاتية والطبيعة:

والفلسفات السائدة اليوم إما قهوة بطعم البيض، أقصد الخيال الواسع المؤثر في فهم المحسوس، مثل هايدغر، وهوسرل، وسارتر، وإما طبيعي يكتب في الخيال أمثال دارون وفرويد ودركايم وأوجست كونت، أو محاولة للتوفيق بينها مثل كانت.

2- (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ):

وقد جاء الشرع لوقف هذه الثنائية من الذاتية والطبيعية، وأعاد ترتيبهما على وجه لايمكن أن يدركه الإنسان من غير نبوة، فيُثبت الأحكام بما في نفس الأمر، فتارة يكون نفس الأمر هو  نفس المكلف كفِطر الحامل والمريض لخوفهما على نفسهما، وتارة يكون الأمر  بالخارجي الطبيعي، كتحريم ذات المسكر  لكونه مسكرا  ولو لم يُسكِر المكلف بالفعل، وجمَع الشرع بينهما، فأمر المكلف أن يوافق قصد الشارع خروجا من ميوله النفسية وأسر الطبيعة، وهو غاية حرية الإنسان أن يعتق نفسه من أسر الميول النفسية ويتَسيَّد على الطبيعة لأنه صار موافقا لقصد الشارع، أما أسير الخيار والنزوات فهو مستعبد حتى يخرج منها إلى قصد الشارع.

3-التسليم لله هو الحرية من أسر الميول النفسية والطبيعية:

 أما  الأمر بالتسليم لله تعالى في ماهية ذاته وصفاته، وتفويض علمها إلى الله، والسؤال عنه بدعة، والعجز عن الإدراك إدراك، فهو أمر  خرج به الشارع من خيالات الإنسان في التعطيل على عتبة الفلسفة وهي القهوة بطعم البيض، ومن تحكُّم الطبيعة في التجسيم على عتبة الحلول، وهو  البيض بطعم القهوة، فسبحان الذي خلق النفس فألهمها، والطبيعة فسواها، وبالشرع قدر فهدى (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى).

4-قاعدة الفرق بين الطوائف الإسلامية وغير الإسلامية:

أ-التعطيل والتجسيم من الذاتية إلى الطبيعة:

والسؤال: ما معيار التفريق بين الطوائف الإسلامية وغيرها، نقول إن الطائفة الإسلامية التي عطلت صفات الله فأنكرت الوجه واليد والاستواء مثلا، وتمردت على تسليم السلف وإثباتهم، الجواب: إن المعطلة وافقت الشرع في قصد التنزيه، وخالفته بالتعطيل، وإن المجسمة الذين زعموا أن الله متعدد الذوات: يد، ووجه، وعين، وفيزياء الزمان والمكان قد وافقوا قصد الشرع بالإثبات ولكنهم خالفوا في التجسيم.

ب-المعطلة والمجسمة وافقوا الشرع في القصد وخالفوا في الحكم:

 فكلاهما وافق قصد الشرع بالتنزيه أو الإثبات، ولكن خالف مُحْكم الشرع بالتعطيل والتجسيم، فمِن هذه الجهة بقي تحت الشهادتين، وثبت له الإسلام مع الحكم ببدعة التعطيل أو التجسيم، وعليه فإن المعطلة فسروا الإله إما بالتجريد النفسي الفلسفي، وأما المجسمة ففسروا الإله نسبيا مع الطبيعة، لأن ما خرج عن الحس عندهم يكون عدما.  أما في ملة الكفر فهوم لم يوافقوا الشرع في قصد ولا في حكم، ولم يدخلوا تحت الشهادتين أصلا.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا يَنْجبِر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

26 -صفر-1445

12-9-2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top