قاعدة الفرق بين التأويل صفةً في المجتهد أو صفةً في الدليل

تمهيد: مشكلة الكتابة الدينية المعاصرة:

1-الفرق بين التأويل صفة في المجتهد وصفة في الدليل:

التأويل صفةً في المجتهد، بمعنى أن فهم المجتهد هو الذي يفتي به، وهو ما يعرف بالحمل الفقهي، ولا يفرق بعض الكتاب بين تأويل العلماء صفة في المجتهد والتأويل الذي هو صفة في الدليل أي وجه من وجوه تفسيره، فتذكر له المذهب المالكي يفتي بكذا، فيأتيك بقول للقرطبي في تفسيره، أو بشرح للنووي لحديث، أو في الفقه المقارن، أو أن يجعل رواية أبي هريرة رضي الله عنه مذهبا له.

2- تهادم الأدلة أثر لعدم التمييز بينهما:

 بمعنى أن هؤلاء الكُتاب عندما يجعلون الرواية أو شرحها مذهبا، ثم يهدمون به المذاهب المحررة والرواية معا، بسبب عدم تمييزهم بين التأويل صفة في الدليل وصفة في المجتهد،  ويخترعون الصدام بينهما، مع أنهما ليسا متعارضين، فهؤلاء هم حالة هدمية في الشريعة من داخلها، وهي أخطر من القصف الخارجي الحداثي، بل الحداثي أصبح يمارس الهدم الداخلي من خلال تبني أسلوب أولئك الكتاب، لنجاعته في هدم الشريعة وصناعة التناقض من داخلها، وهذه المقالة جاءت لتبين الفرق بين التأويل صفة في المجتهد وصفة في الدليل.

1-مثال على التأويل صفة في الدليل:

عندما نقول في قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) فإن الخطاب لغة قاصر على  المخاطَب وهو النبي صلى الله عليه وسلم،  فهذا وجه في الدليل، ولا مانع من  إظهاره في التفسير وشرح الحديث والأصول والفقه المقارن.

2-مثال على التأويل صفة في المجتهد:

 وإذا قال المجتهد إن هذا الدليل (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) وإن كان قاصرا  لغة على المخاطب، ولكن مراد الشارع أن الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم أمْر لأمته، وأنه لا  فرق بين الصلاة والزكاة، فهذا تأويل أبي  بكر الصديق بوصفه مجتهدا في بيان الحكم الشرعي في الآية، وهذا التأويل لأبي بكر هو الذي يفتي المجتهد بموجبه هو صفة في المجتهد وهو الحامل أي الفاهم عن الله تعالى،  وكان سبب القتال لمانعي الزكاة لأنهم جعلوا التأويل وفق اللغة وهو صحيح من حيث هو وجه في الدليل فهما للمراد وصفة في المجتهد، ولا يخفى على أبي بكر رضي الله عنه، إلا  أنهم جعلوه حكما شرعيا للتطبيق.

3-خطورة عدم التمييز بين التأويل وصفا  في الدليل أو وصفا في المجتهد:

ومن هنا قاتل مانعو الزكاة أبا بكر،  واليوم تضرب الشريعة بالشريعة، وتهدم الإجماعات والفقه باعتبار التأويل وجها في الدليل وصفا في المجتهد المفتي، ويهدِم التأويل الذي هو وصف في الدليل في كتب التفسير والحديث والأصول والفقه المقارن تأويل المجتهدين، فما أشبه اليوم بالبارحة، وحقا إن العصا من العُصَية، ولا تلِد الحيَّة إلا حَية.

4- منهجية بحثية ضرورية للباحث في المذاهب الفقهية:  

عندما يبين أئمة الاجتهاد أحكامهم فهذا التأويل صفة الفهم في المجتهد المعَيِّن لمراد الشارع ، وهو متصدر للفتوى لبيان حكم الشارع، وعندما يفسر القرآن ويشرح السنة ويوضح القاعدة الأصولية ويبدي عارضته في الفقه المقارن، فهو متصدر لبيان للتأويل من حيث وجوه الأدلة ابتداء وليس معينا لمراد الشارع الذي هو الفتوى، ثم  التأويل وصفا في المجتهد، فليس غريبا أن يرجِّح النووي قولا في المجموع باعتبار التأويل وجها في الدليل ثم يبين معتمد الفتوى بخلاف ذلك في المنهاج مبينا التأويل صفة في المفتي، وكذلك في مذهبنا بالنسبة لخليل في التوضيح، ثم يبين ما به الفتوى في المختصر، والمازري الذي قد  يرجح غير مذهبه في شرح التلقين ولكنه لا يفتي إلا بالمذهب.

5- صناعة العدمية الدينية بين يدي الساعة:

كلما استدل الفقهاء بإجماع أو باتفاق في الفتوى تسلل بعض المعاصرين إلى كتب التفسير وشروح الحديث والفقه المقارن وأصول الفقه ثم جاؤوا بتأويل العلماء الذي هو وجه  في الدليل ثم ضربوا به الإجماع واجتهاد المجتهدين الذي هو صفة في المجتهد، وتهادم على أيديهم وجه الدليل مع اجتهاد المجتهد، ولم يبق منهما شيء، وهو صدام تفريغي عدمي للشريعة، عدمية ولا أبا بكر لها هذه الأيام بسبب سيطرة ابن الجيران على الإعلام وفلسفة (الجمهور عاوز كدة).

6-أصول الفقه يطلق صفارة التسلل:

ذكرت سابقا أن مَن شرب أثناء الأذان الثاني للصبح وهو في النهار فهو حرام، ونقلت عن عبد البر اتفاق الجماعة على تحريم ذلك، ولكن أبى بعضهم إلا أن يحشد شيئا من شرح الحديث أو التفسير أو أقوالا منقطعة مهجورة ليهدم الإجماع، مما يؤدي إلى إبطال صيام عامة المسلمين، وهذا المثال غيض من فيض في الفكر الديني المعاصر الذي يتزلج على الروايات المتشابهة وينبذ المذاهب المحكمة والمحررة.

 فكلما جئنا بتأويلات المجتهد في الفتوى، تسلّل أحدهم إلى مصادر الشرح والتفسير وأمثالها ليهدم الفتوى بتأويل في الدليل الشرعي، فليس الأمر جديدا، فإن أول حرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم قامت لهذا  السبب، حيث قدم مانعو الزكاة وجها في الدليل وهو صحيح، ولكنهم جعلوه تأويلا دينيا  وفهما لمراد الله تعالى، وحاربوا عليه أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وقد بينتُ سابقا تحت عنوان الخلل في الكلي ليس كالخلل في الجزئي كثيرا من هذه الانحرافات على يد المسلم الأخير، فمن أراد أن يرى نماذج من الصدام المصطنع بين الصناعات الشرعية الثقيلة فسيجد الكثير.

7-قطر السواقي على بحر المراقي:

قال في المراقي في الإجماع: ولا يعارِض له دليل***ويُظهر الدليلُ والتأويلُ، جاء في نشر البنود على مراقي السعود: والمراد بالإحداث المذكور الإظهار لا حقيقة الإحداث لوجود الدليل والعلة والتأويل في نفس الأمر وهو ظاهر أن حمُل التأويل على وصف الدليل أعني كونه مؤولا أي مصروفا عن ظاهره، فإن حمل على ما هو وصف المجتهد فحقيقة الإحداث متحققة بالنسبة إليه، ويكون الإحداث مستعمَلا في معنييه، نعم لو كان الدليل القياس وفُسر بفعل المجتهد بالفعل كان إحداثًا حقيقة.

8-نظر الأصولي في صحة القاعدة والفقيه في استعمالها:

إن نظر الأصولي أشبه بصانع شباك الصيد، فيصنع ما يصلح لصيد البحر والبر والجو، وكل هذه الشباك صحيحة في نفسها بالنسبة للأصولي، ثم يأتي المجتهد في استعمال القواعد الأصولية وهو أشبه بالصائد، فيستعمل كل شبكة استعمالا صحيحا، بحسب كلِّ صيد بعينه، فلا يستعمِل شبكة البحر كالصنارة في صيد البر، مع أن الصِّنارة صحيحة في نفسها، ولكن الخلل حصل في استعمالها في صيد البر من قبل الصائد، وهكذا الخلل الحاصل في استعمال القواعد الأوصولية، وهذا الخطأ يعني استعمال قواعد الأصول قطع غيار يلبَّس بها على العامة، فهي صحيحة من حيث هي قاعدة، لكنها فاسدة باستعمال الشيوخ لها في غير موضعها.

9-الحداثة ومشابَهة الفكر الديني المعاصر:

إن الحداثة تقرأ النص في بنيته اللغوية متجاهلة مراد المتكلم سواء في الفلسفة البنيوية أو التفكيكية وغيرها، وتعلن وفاة المؤلف، وأن الحق في النص هو للقاريء، وإلغاء مراد المتكلم الذي هو وصف في المجتهد، وتعكف على التأويل وجها في الدليل، وهو قدر مشترك بين الحداثة والفكر الديني المعاصر، فكلاهما يُغَبِّر وجوه العامة بالمتشابهات والوجوه المحتملة في الدليل، ثم يعكف على هدم المذاهب المحررة، بصناعة الصدام بين متشابهات الشريعة ومحكماتها، وإن هذه المذاهب المتبوعة المحكمة قادرة على هزيمة هؤلاء جميعا، ولكن المشكلة هي في العوام حيث تتقارب أفهاهمهم مع الفكر الصبياني في النص، ويشق عليهم فهمُ عُمق المجتهدين وعلوِّ كعبهم في أدلة الشريعة، مما يجْعلُ ابنَ الجيران متحكِّما في العامة بسبب لغة الطفل المشتركة بينهما في فكر الدليل.

*** الخلاصة:

إن الله نزَّل الكتاب أحسن الحديث متشابها ومحكما، وتعيينُهما أمْر يَعسُر على المفكرين والعوام، بل هو من شأن المجتهدين العظام، الذي ائتمنهم الله على استنباط الأحكام، وإن الصدام الحاصل اليوم هو صدام داخل الشريعة صدام مفتعل لجرأة العوام على رتبة الإمام، وهذا ليس جهلا منهم بل استهتار بدين الله تعالى، والحداثة تحاكي الوسط الديني في تتبع المتشابه لتنتج نفسها من داخل الدين نفسه، في شريعة وهمية مزيفة تلبس الحق بالباطل، والمحكم بالمتشابه، وإن في تقوى الله العصمةَ والبركةَ.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

14-شوال -1444

5-5-2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top