محددات التحليل السياسي والعسكري في ضوء الشريعة (فلسطين نموذجا)

تمهيد: الأدلة الشرعية إما قطعية أو ظنية مرجعها للقطعية:

1-خطورة التفكير الديني الجزئي على كليات الشريعة:

إن سبب الشقاق في الدين هو التفكير الجزئي في الشريعة، وهو الاكتفاء بالنظر في نص شرعي جزئي وهدر الكلي الذي ينضوي تحته ذلك الجزئي، ثم يأتي طرف آخر فيمسك بجزئي يصدم به جزئيا آخر، وعندئذ يحتج جميع المتحاربين بالكتاب والسنة مكتفين بالنص الجزئي ومستغنين عن كليه، وهؤلاء هم الذين جعلوا الكتاب عِضِين، فترى من يذهب إلى الغلو أو إلى الجفو  حيث تتنازع بين أيديهم نصوص الكتاب والسنة، فالإمامة وطاعة الإمام واجبة، وفي الوقت نفسه يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتفكير الجزئي يؤدي إلى صراع الجبر والقدر ، والتكفير وإلإرجاء، والوعد والوعيد، وهنا تتنازع النصوص الجزئية بين أيدي المقتحمين، ويحدث الاقتتال، بسبب أخذ النصوص الجزئية مع الإعراض عن كلياتها، أو الأخذ بالكلي مع الإعراض عن جزئيِّه.

2-كيف تستفاد الأدلة الكلية من نصوص الشريعة الجزئية:

إذا قلنا إن الإنسان مسؤول عن عمله لأنه مختار، فهذا الكلي ثبت بمجموع النصوص لا بنص واحد، وكذلك أن الله خالق أفعال العباد ولا شريك له في الخلق، وأن نصوص الشريعة شاهدة بوجوب لزوم الجماعة، مع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهذه الكليات القطعية هي المِحجة البيضاء التي ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وهذه المحجة البيضاء ثبتت بمجموع النصوص وكثرة الأدلة، فلا يجوز لدليل جزئي واحد الخروج عليها، ويجب أن ترتب الأدلة الجزئية ضمن الكليات، وإلا تنازعت الشريعة وحصلت الخصومة في الدين بسبب تتبع الجزئيات المحتملة وهجر الكليات المحكمة.

3-فلسطين محرك الاستقلال الحضاري:

إن فلسطين الأبية هي محرك استقلال حضاري فوق كونه سياسيا وعسكريا، ولما كان التحليل السياسي والعسكري قائمين على فلسفة الحداثة التي تفسر  ظاهرا من الحياة الدنيا بناء على أن العالم مكتف بنفسه منفصل على التدبير الإلهي كان لا بد من بيان معالم وتفاصيل أصيلة في ديننا توجه التحليل ليكون بنائيا على أصول الدين والشريعة، لا منفصلا عنها في دهرية(علمنة) مستترة، تتمسح بالنصوص والشعارات الدينية دون حقائق، لذلك تهدف هذه المقالة إلى بناء نموذج للتحليل يقوم على العقيدة ثم الفقه ثم الذهاب إلى السياسة الشرعية وتحليلاتها النظرية في الواقع، وذلك دفعا للخصومة وحسما لدابر النزاع في الدين، لأن النزاع في السياسة والإعلام لا يؤمن فيه أن يصبح خصومة في الدين، وتحريضا على المؤمنين:

أولا: محددات أصول الدين:

تتمثل هذه المحددات في أمرين: أن الله خالق أفعال العباد، متصرف في ملكه كيف يشاء، والثاني: أن العباد من مؤمنين وكافرين محاسبون على كسبهم، لأنهم مختارون لأفعالهم، فكما أن الله خالق الرزق والرزق كسب للإنسان، كذلك الأعمال من الطاعات والمعاصي خلق لله وكسب للعباد، وعلى ذلك الثواب والعقاب، وفيما يأتي تفصيل ذلك:

1-الحرب خلق إلهي بلا شريك:

اعلم أن الله تعالى هو الذي جاء باليهود إلى فلسطين وهو الذي أعطاهم العلو الكبير  وأمدهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا، وجعل لهم حبلا من الناس، ولولا ذلك ما قامت دولة العدو على أرضنا المقدسة،  وانظر  لفهم ذلك إضافة الفعل لله تعالى في فواتح سورة الإسراء ((وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)) وانظر أيضا قوله تعالى في السورة نفسها: (وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104).

2-ماذا يفيدنا أن الله هو المتصرف بخلق دولة العدو:

-بما أن الله هو الخالق سبحانه وتعالى لكل مقدرات العدو، فهذا يعني أن العدو ليس قويا في ذاته، إنما بما وهبه الله تعالى اختبار له، وتمحيصا للمؤمنين، وإن حصول الخوف من هذا العدو الضعيف وعدم الخوف من الله هو ضرب من الجهل برب العالمين، ولا بد من انتزاع هذا الخوف المرضي من قلوب المسلمين، ولكن لا مانع من الخوف الطبيعي كخوف الإنسان من وحش مفترس، ولكن يعلم ذلك الإنسان أن المخلوقات جمعيا لا حول لها ولا قوة إلا بالله.

-وبناء على ما سبق ينتزع الوهن من القلوب التي تنزع نحو الاستسلام لليأس من روح الله، ويمتلئ قلب المؤمن بالثقة بالله تعالى والتوكل عليه لأن الله هو المتصرف وليست القوى الدولية إلى خادمة في ملك الله تعالى، ومسخرة لإظهار العلم والحكمة الإلهية في الخلق والثواب والعقاب، وهذا كله سيؤثر في بناء الأحكام الفقهية كما سيأتي ولن تسمع تحليلا سياسيا يخذل المسلمين في قضيتهم على أرضهم المقدسة، وأن التحليلات المنبطحة ليس لها نصيب من الحقيقة بل هي وهم في قلوب الضعفاء الذين يجهلون ربهم أنه هو المتصرف وليس النظام الدولي برمته إلى خادم لما جرى به القلم في اللوح المحفوظ

3-ماذا يفيدنا أن أفعال العباد هي كسب لهم وعليه الجزاء:

أ-بطلان مذهب القدرية في الإسلام وفي الحداثة:

-تزعم القدرية أن العباد يخلقون أفعالهم من الطاعات والمعاصي بقوة مودعة فيها قدرة على التأثير والخلق، وهذا هو شرك الأحياء حيث يعتقد القدرية خالقا يؤثر في الإيجاد لأن الله يخلق بوسائط فيها قوة مودعه لها قدرة على الخلق من جنس قدرة الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وهذا الشرك بالقوة المودعة سيكون له نصيب من تعلق المسلم بالكائنات، ويجعل هذه الكائنات شريكة مع الله في الإيجاد، ومن أشرك بالله شيئا تركه  فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : قال الله تبارك وتعالى : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) رواه مسلم، وشرك القوة المودعة المؤثر مع الله هو  شرك مانع من استنزال النصر من الله تعالى، وتوجيه الأمر كله لله تعالى.

-أما الفلسفة القدرية المغالية في الحداثة فهي تنفي إضافة الخلق لله، وتعتبر الإنسان خالق بلا شريك من الله في علل وطبائع، وليس لله شئ، خلافا لقدرية المعتزلة فهم مسلمون ضلوا عن سواء السبيل، ولم يكفروا بذلك لأنه يصح أن يكون الله عندهم خالقا مجازا لأن يخلق القوة المودعة في الأسلحة، ولكن شركهم بالقوة المودعة أو ما يسمى قدرة حقيقية كان بتأويل يعذرهم في الكفر ولا يعذرهم في البدعة.

ب-بطلان مذهب الجبرية:

أما الجبرية فهم ينظرون أن الله خالق لأفعال العباد وليس للعباد كسب واختيار، بل الإنسان في أفعاله الاختيارية كخيط معلق، وسن في دولاب لا حول له ولا قوة، وهذا المذهب الجبري أخطر على المسلمين من القدري، لأنه فكر استسلامي، مستكين، وسيعيد تفسير الأحداث فقهيا وسياسيا على أننا لا حول لنا ولا قوة، مع هذا العدو الغاشم، لأننا ليس لنا اختيار ولا فعل اختيار ي، بل الحروب كالتفاعلات الكيماوية في علاقة المقدمات بالنتيجة، وإذا شاع هذا الفكر الردئ في فهم سلوك العباد ستزداد الأمور سوءا على سوئها، ويجعلنا لحما طريا تحت سكاكين المستعمرين والغزاة، والتحليل السياسي المستكين لهذه الجبرية سيولد عملاء وجواسيس وعزائم خائرة.

ج-صحة مذهب أهل السنة أصحاب الانتصارات في حطين وعين جالوت:

-يرى أهل السنة أن الله تعالى متصرف في ملكه من غير قوةمودعة أو وسائط تشاركه -سبحانه- القدرة والإرادة، فاتجهوا بكل قلوبهم إلى ربهم لم يصرفوا شيئا منها إلى قوة مودعة، أو علة أو طبيعة، بل الله هو المدبر والمتصرف في  كل لحظة خالق في ثانية كما يشاء، وأن هذا العدو من مغول وصليبيين ويهود ليسوا سوى خدم لقدر الله تعالى فلنصلح ما بيننا وبين الله، ولا نخشى إلا الله، (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، وانتزعوا الثقة من الأسباب الفارغة، وجعلوها بأيديهم، ولكن الله في قلوبهم.

– فنظروا إلى العدو على أنه آنية فارغة، ونمور من ورق، وأن الله هو الذي يفعل ما يشاء، والعدو  وكل من معه خدم لقدر الله الله تعالى الذي جرى به القلم، وعمل المسلمون بالأسباب ولكن جعلوها في أيديهم(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ) ولكن إيمانهم بالله يملأ قلوبهم ولا محل لغير الله في قلوبهم، وهذه هي العقيدة التي تصنع النصر تطيع الله بالأخذ بالأسباب حسب الاستطاعة، وتحقيق الإيمان بالقلب حسب العقيدة

د-العقيدة القتالية التى تُربى عليها جيوش المسلمين:

إذن الإعداد في الأيدي والإيمان في القلوب حسبما ذكرت هو العقيدة القتالية التي يجب أن تتربى عليها جيوش المسلمين، يد بالسلاح تستعد، وقلوب من الإيمان تستمد،فلم نجعل الأسباب شريكا لله كمذهب القدرية، ولم نجعل القلوب أسيرة للمادة كما فعلت الجبرية، فهذه هي ثنائية الاستعداد والاستمداد، هي التي ستعيد فينا بدرا، وحطين وعين جالوت، أما القدرية فستجعل الأسباب شركا مع الله في القلوب، والجبرية ستجعل القلوب يائسة ومريضة ومستسلمة للواقع.

ه-وحدة العقيدة هي وحدة الأمة:

إن المسلمين على عقيدة واحدة، هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وإن تورط بعض الأفراد والجماعات بمشاركة القدرية أو الجبرية ببعض الجزئيات مع توافقهم مع أهل السنة في الكليات لا يخرجهم من أهل السنة والجماعة، ترجيحا للكلي على الجزئي، لأن الخلاف مع الطوائف الإسلامية هي في الأصول الكلية تحت ضروريات الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلا من جحد ضروريا من ضرورياته، ولكن الدعوى للإصلاح تبقى داخل الأمة في جذعها أهل السنة والجماعة، والطوائف من معتزلة وشيعة وكرامية ليسوا موجودين طوائف برؤسهم إنما هي أفكار  متسربة وليست جماعات قائمة برأسها، وتعامل تلك الأفكار المنحرفة كالقدريةوالجبرية التي ذكرتها بوصفها تسريبات تلوث بها بعض أفراد أهل السنة.

ثانيا: الأحكام الفقهية المترتبة على الأصول الدينية السابقة:

1-جدار فرض الكفايات حارس لفروض الأعيان ووجود الأفراد:

في هذه الفقرة أتحدث عن جدار فرض الكفايات وأثره في لزوم جماعة الأمة مهما كانت إنجازات الأحزاب والجماعات والدول، وأن اليد الأولى هي للأمة فالأمة صاحبة الفضل على الجميع وليس لأحد فضل عليها، وأمارة ذلك أن فروض الكفايات المنوطة بالأمة كلها هي السياج الحامي الذي ينحاز  إليه الجميع، ولولا جدار فرض الكفايات لما قامت فروض الأعيان، ولا بقاء للأفراد أحياء لولا قيام جدار فرض الكفايات، فالحركات السياسية في فلسطين بكل فئاتها وتباين رؤاها السياسية والدول لا تملك هيبتها لولا وجود أمة عربيةمسلمة مهما كانت حالة الضعف.

2-ليس للحزب والدولة والجماعة تجاوز  لزوم جماعة الأمة:

بما أن هذه الأمة واحدة وهي أمة أهل السنة والجماعة، فإن الجماعات على الساحة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو علمية يجب أن تعامل في الفقه على أساس أفرادها أن الفرد مكلف والحكم يتعلق بفعل المكلف نفسه بصرف النظر عن الجماعة، ولا يجوز أن تتغول هذه الجماعات على الإطار  الفقهي الجامع، أو أن تخل بالجماعة خصوصا والأمة في مواجهة العدو الغاصب، فيجب التعامل مع أهل فلسطين جميعا بكل فئاتهم على أنهم فئة واحدة، وليس حركات سياسية أو أحزاب أو جماعات، لأن ذلك تفريقا لأهل السنة في وقت الحاجة إلى اللُّحْمة، ومن المؤسف أن سلاح العدو لا يفرق بين أهلنا في فلسطين، ثم يأتي بعض المنتسبين يريد أن يفرقنا إلى أحزاب وجماعات.

3-ضرورة القرار الجامع لأهل السنة في فلسطين ومن وراءهم من أهل الدين:

وعليه فإن لزوم الجماعة للمسلمين في فلسطين، بحيث يكون أهل الرأي ممثلين لمجموع فلسطين، وبهؤلاء تناط الأحكام بحسب الاستطاعة، في مجلس جامع بين الخبرات السياسية والعسكرية والإعلامية التي هي الأقدر على تشخيص محل الحكم مع الخبرة الفقهية التي هي الأقدر على فهم الحكم، ثم بعد ذلك نقاش جماعي في تعيين الحكم الشرعي الدقيق حسب الوصف  المناسب في محل الحكم وهو الواقع.

4-عضوا على الجزئيات بالنواجذ ورَكَلوا الكليات بالأقدام:

إن حديث وإن جلد ظهرك، وأن القرآن والسلطان مفترقان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وصراع العلماء الربانيين مع ما يسمى علماء السلطان، هو تموضع للجزئيات الديينية تحت كلي الحداثة القائم على المعارضة والموالاة، ويجب استرداد جزئيات الشريعة تحت كليات الشريعة لا كليات الحداثة، ويجب إعادة ترتيبها تحت كلي لزوم الجماعة والأمة وبناء الدولة، وبين الاستمرار الإصلاحي في كلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا هو الترتيب  الذي اجتمع فيه القرآن والسلطان، والشعب والأمير، في معركة حطين وعين جالوت، هذا هو الذي سيحمي الأمة في مواجهة الكيد الشيعي الباطني والغزو الاستعماري الخارجي، والأخ الجافي، والصديق العاجز، وأصول الشريعة لا تتعارض إلا على أيدي الدعاة الجدد.

5-دخول المعركة بسبب مشروع أو بلا سبب مشروع:

أ-إذن الشرع أولا وإن عرضت المفسدة:

إذا دَخَل المكلف في الجهاد بسبب أذِن به الشارع وحصلت مفسدة فلا تكون راجعة للسبب بل هي عارضة، أما إذا دخل في الجهاد من غير سبب مشروع فذلك راجع إلى المعصية غير المشروعة وليست للسبب، فلو أذن الإمام أو أمير الحرب لبطل بالمبارزة، ثم قُتل ذلك البطل، وتراجعت لذلك معنويات الجيش، فذلك االتراجع المعنوي العارض للمجاهدين ليس راجعا إلى معصية، بل لسبب مأذون فيه، وهو إذن أمير الحرب، وتكون المفسدة عادية ومحتمَلة شرعا وهي مصلحة باعتبار صحة سببها، ولأنها عارضة للسبب المشروع.

ب-العبرة بالبداية لا بالنهاية:

– وأما لو خرج البطل للمبارزة من غير إذن قائد الجيش وقٌتل وفت ذلك في معنويات الجند، فإن هذا التراجع في المعنويات مفسدة شرعية لأنها من غير سبب مشروع، وهكذا تتوقف المفاسد الحاصلة في الجهاد من حيث كونها عارضة لسبب مشروع، فتكون محتملة شرعا وفيها الثواب، أما إن كان الداخل في المفسدة بسبب المعصية فالمفسدة ناشئة من المعصية، ويجب منها التوبة.

6-الدخول في السبب المشروع بشرط بيان طريقة الإذن في الجهاد:

أ-يجب أن يكون سببب الدخول في العمل مباحا:

-إن العلل العامة البديهية بوجوب الجهاد إذا احتل شبر من أمر المسلمين لا تقدم أحكاما فقهية تفصيلية، بل لا بد من إذن تفصيلي في خوض المعركة سواء كانوا جماعة أو  أفرادا، فعلى سبيل في مثال في غزة، فإن قرار المعركة مع العدو أن يكون ممثلا في جميع المباشرين لتحمل نتائج المعركة كبقية الفصائل المجاهدة على أرض فلسطين بالإضافة إلى الوجهاء الممثلين، وقد تعتذر بعض الفصائل بأن السر العسكري وضرورة المفاجأة تحول دون ذلك، نقول إن التفويض وحدود ذلك التفويض يكون فقهيا سياسيا أما العسكري فهو  قرار  عسكري من الجهة العسكرية المخوَّلة.

ب-إذا كان السبب مباحا فالمفسدة المترتبة عارضة:

وفي حال حصول ذلك الإذن بحدوده يجعل الدخول في المعركة مع العدو مسؤلية عامة مشتركة يتحملها الجميع، ولا يجوز لفصيل أو جهة اجتماعية أن ينحي باللائمة على جهة ما أو  فصيل، لأنه دخل المعركة بإذن من المرجع الشعبي في الجهاد، وهذا أقوى للجماعة، وأبعد من الفرقة، وتفويت الفرصة على المرجفين في المدينة من أن ينالوا خيرا.

ج-إذا فسد السبب فالمصلحة عارضة:

قد يقول قائل إن من دخل في المبارزة من غير إذن أمير الحرب فأثخن في العدو ورجع سالما رفع معنويات الجيش، فهذه مصلحة شرعية، نقول إذا كانت بسبب غير مشروع فالمصلحة المترتبة عارضة لأن السبب فاسد، وأصل العمل بغير إذن الشارع، فهي المنفعة في معناها الدنيوي لا المصلحة الشرعية التي أذن الشارع في الدخول فيها، وما بني على باطل فهو باطل، والله لا يصلح عمل المفسدين ولو كان ظاهره الصلاح.

د-بطلان التفسير  النفعي (البراجماتي) في مسائل الجهاد:

كثيرا ما يقيم الفعل باعتبار نتائجه بحسب النظر الحداثي، ولكن التقييم الفقهي للجهاد يكون بحسب إذن الشارع ولو ترتب على الجهاد تلف النفوس والأموال، وإن النظر في صحة الجهاد إنما يكون باعتبار السبب المجيز للدخول فيها، فإن كان المجاهد دخل في الجهاد بإذن الشارع، فعمله صحيح مهما كانت النتائج، وإذا كان المقاتل دخل في الجهاد دون استكمال الأسباب والشروط فعمله معصية ولو كانت في ذلك مكاسب دنيوية عاجلة، ومن باب أولى لو  ترتبت المفاسد فتكون مفسدة على مفسدة بسبب الدخول من غير إذن الشارع، ولكننا اليوم أصبحنا أمام تناقضات في مسائل الجهاد بسبب تحول الجهاد إلى ظاهرة إعلامية لا يترتب على الأرض منها شئ، وليس للناس من الجهاد إلا النداءات فقط.

7-قاعدة الفرق بين التفسير النفعي (البراجماتي) ومقاصد الشريع(أصحاب الأخدود نموذجا):

أ-إن ما نشاهده من تحليل سياسي للأحداث الجارية في ديار الإسلام يقتصر  على النتائج في المنافع والمفاسد العادية، دون ملاحظة كون هذه المنفعة أو المفسدة شرعية أم لا، لأن محدد المصلحة أو المفسدة الشرعية يكون عند الدخول في الفعل أنه استوفى إذن الشارع أم لا، فإن طرأت المفسدة مع إذن الشارع عند ابتداء العمل فهي مفسدة عارضة في مشقة التكليف الواجب احتمالها، وتكون مفسدة باعتبار العادة، مصلحة باعتبار الشرع لأن مصلحتها ممتدة إلى الآخرة بالثواب.

ب- وهذا واضح في المؤمنين من أصحاب الأخدود الذين أحرقهم الكافر بسبب إيمانهم، وثبتوا على إيمانهم مع أن ذلك ترتب عليه مفسدة عادية وهي هلاكهم بالنار جميعا، ولكن لما صبروا وأخذوا بالعزيمة كان في ذلك مصلحة ممتدة إلى الآخرة وآيات تتلى لتؤخذ منها العبرة في التفريق بين المصالح والمفاسد العادية، والمصالح والمفاسد بحسب الشرع، وهذا يحذر من مغبة الخلط الدائر  بين النفعية المادية والمقاصد الشرعية، والدَّهْرَنَة(العَلْمنة) المتسترة بمقاصد الشريعة .

8-الحكم معلوم ولكن البحث في محله هو المطلوب:

أ-ثبوت الأحكام بأدلتها وعللها:

الفقيه يدرك الحكم بدليله وعلته، وهذا لا يختلف باختلاف الأزمان، ولكن المتغير هو محل الحكم، ولاشك أن محل الحكم في الدولة والجهاد اليوم طرأت عليها تحولات كثيرة، فليس المطلوب بتجديد الأحكام وعللها، بل النظر في محلها في الخارج، وإعادة ربطه بالحكم على جهة المقايسة كما يعرف بتحقيق المناط، وهو تصور  انطباق كليات الشريعة على جزئياتها الحادثة، أو أن يثبت الحكم بمدركه ولكن يبقى النظر في تعيين محله، فتعيين المحل هو المطلوب النظري.

ب-وجوب البحث النظري في تعيين الحكم:

وبناء على أن الأحكام ثابتة والمسؤول فيها هو الفقيه، فإن تعيين المحل بأوصافه هو من شأن الخبرة العسكرية والاستخبارية والاقتصادية والإعلامية وغيرها من الخبرات الضرورية المساهمة مع الفقيه في تحقيق المناط، وفي حال عدم اكتمال البحث النظري في محل الحكم، والعجز عن استقراء الحقائق الشرعية وأحكامها في الفقه ستظر ثغرة معرفية خطيرة، ستؤدي إلى تشظي الجهاد والسياسة، بسبب الفرقة الحاصلة في المعارضة والدولة، وهذا الانفصال سيؤدي إلى قوى شد عكسية لا يستفيد منها إلا العدو، بسبب اختراع الدور الوظيفي للكتاب والسنة في خدمة المصالح الفئوية للمعارضة والحكومة، واستخدام نصوص الدين استخداما فئويا يفرق بين سيف السلطان وبيان القرآن.

د-عندما تصبح الفتوى والدولة في الجهاد معادلة صفرية:

-قرار الحرب بين الفتوى والإمامة:

عندما يكون الحكم الأصلي في الجهاد هو فرض عين، ولكن يبقى النظر في تعيين محله، فهذا أمر يتطلب خبرة عسكرية وأمنية في حالة بعينها فهذا أمر ليس مما يطلع عليه المفتي، ولكن يكون من مسائل الإمامة وليس من مسائل الفتوى، ويحصل الشقاق في الدين بسبب الخلل في الكليات، بنقل قرار الحرب إلى المفتي، أو  إقصاء المفتي مطلقا بادعاء أن هذه من مسائل ولي الأمر، وهو النزاع الحاصل بين المسلمين اليوم، في تهادم الفتوى والإمامة معا بسبب التناقض المصطنع، وعدم تحقيق نتائج فعلية على الأرض بسبب هذه المعادلة الصفرية.

-واجب المفتي البيان وليس اتخاذ قرار الحرب:

يجب أن يبين المفتي الحكم في فرض العين من حيث هو أصل شرعي دون منازعة مسائل الدولة، التي تتطلع إلى تحقيق الممكن في ضوء المراجحة بين المفاسد والمصالح، وعلى المفتي أن يكون سندا للدولة في ممكناتها وضروراتها والإكراهات التي تتعرض لها، مع التلويح بالأصول لا بوصفها معاندة للإمامة بل بوصفها مساندة لما يمكن تحقيقه، ورفع سقف المطالب المشروعة للأمة، مع الدعم للإمامة والدولة في ممكناتها.

-تناقضات الفتوى والإمامة والنهاية العدمية:

مذ نعومة أظفارنا ونحن نعلم أن الجهاد فرض عين إذا احتلت أرض المسلمين ولكننا لم نجاهد، ولا الذين قالوا بأن الجهاد فرض عين جاهدوا، لأن الخطاب كان إنشائيا ولم يكن إجرائيا، بحيث يخاطب كل فرد بممكناته التي تحت يده، ولا بالممكنات للدولة التي تمثل الإمامة، بل كان خطاب الجهاد فرض عين إنشائيا يناقض بإنشائي آخر  وهو عدم الخروج على الدولة وطاعة ولي الأمر، وهذا التناقض أدى إلى التهادم وعدم تحقيق أي إنجاز بسبب هدم الكليات بالجزئيات، فالنصوص الجزئية طاعة ولي الأمر وهي حق في محلها، تصادم نصوص الجهاد والأمر  بالمعروف والنهي عن المنكر حق في محلها أيضا.

 وكان الواجب هو تنزيل هذه النصوص الجزئية على محلها، وترتيبها ضمن المنظومة الكاملة في مسائل الفتوى والإمامة معا، على وفق المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك، أما البيان المتناقض في الفتوى والدولة فلن يسعد به إلا اللادينيون الذين يساعدهم هذا التفرق في الدين على الدعوة إلى نبذ الدين أساسا بسبب غيبة المحجة البيضاء.

ج-ما هكذا يا سعد تُورد الإبل:

إن التجديد الديني لا يكون بتبديل أحكام الشريعة الثابتة بأدلتها وعللها، وإعادة النظر في النص، بسبب عدم فهم مدارك أئمة السلف، وإعادة النظر في المذاهب المتبوعة وتسييلها ورميها بالجمود، وأنها بحاجة للمراجعة بالدليل، بل المطلوب هو استقصاء محل الحكم وتغيراته وإجراء مقايسة بين الحكم الشرعي الصالح لكل زمان ومكان، وبين محله الصالح له بالاستفادة من الخبرات الفنية المختصة.

9-هل يتوقف الجهاد على فتوى بوجوبه وجوبا عينيا:

ليس حديثي في هذه الفقرة عن المجاهدين الذين أصابعهم على الزناد، وعضوا بأسنانهم على الجراح، إنما هو حديث عن الجهاد الفندقي أمام شاشات التلفزة، ويكتفي بخطابات جماهيرية دون البحث في الوسائل الممكنة، ولا يجيب لماذا لم تجاهد الأمة بالرغم من ترسانة الفتاوى الشعبية بالجهاد، ولماذا يسهل على الأمة تمنى الموت في سبيل الله ولكن يصعب عليها ترك الربا، وهل العموميات في خطاب الجهاد تغني عن مناقشة الجزئيات في القدرة والإرادة والاستعداد خاصة وأن الفقه هو أحكام تفصيلية جزئية.

أ-مانع الجهاد عادي لا شرعي:

والسؤال: لماذا لا تجاهد الأمة فعلا قبل العدوان على غزة وبعد العدوان عليها في مرات سابقة، مع أن جمهور المسلمين يؤمن بأن الجهاد فرض عين،والجواب: إن الشروخ الدينية العميقة سواء كانت بين الجماعات الدينية نفسها، أو الدول وشعوبها، واقتراف الكبائر حكومة وشعبا على رأسها أكل الربا الذي هو حرب على الله، فسبب ذلك شللا وإحباطا وشعورا قاهرا بالعجز وسلب الإرادة لمليارات من المسلمين في وجه شرذمة من شذاذ الآفاق الجاثمين على بيت المقدس، ذلك الشلل الذي أصبح  مانعا عاديا من شرف استرداد بيت المقدس، وهو شرف الجهاد(وكان حقا علينا نصر  المؤمنين).

ب- لا تنفع المناورات الكلامية بالدعاء مع إعلان الحرب على الله:

 وقلت مانعا عاديا أي أن العائق ليس مانعا شرعا من الحكم، وليس الحكم مجهولا أصلا حتى يُبين بفتوى، لذلك لا بد من صدق الأمة في الباطن وسلامة الظاهر ، وأن تترك المناورات الكلامية مع الله التي تسميها الدعاء، لتحصل الأمة على شرف الجهاد، لذلك لما كان المانع من جهة العادة وثبوت ذلك حالا وسابقا، وليس الأمر خارج قدرة الأمة لأن ترك الكبائر في استطاعة الجميع، لأن اللقمة الحرام هي حجاب بين الله والأمة.

ثالثا:التحليل السياسي منضبط بالمسَلَّم العقدي والفقهي:

إن السياسي يبنى على التقرير الفقهي والفقهي مبني على التقرير العقدي ولا يجوز للفرع أن يخل بأصله لأن إخلاله بأصله يعني زواله إذ لا يستقيم الفرع مع اختلال الأصل، وفيما يأتي توضيح ذلك:

1-منع التحريض والحث على التقويم والمحاسبة:

إن إجراء أي تحليل سياسي ينحو بالاتهام والتحريض على فئة من الأمة على أرض فلسطين أو خارجها هو دعوة للفرقة وتشتيت شمل المسلمين، فيجب أن يتناول التحليل السياسي أهل غزة كما تصيبهم صواريخ العدو دون تمييز، ويجب التعامل مع أهل فلسطين أمة واحدة، لا تفريق بينها، بسبب اختلاف التوجهات السياسية أو الاجتماعية أو المذاهب الدينية ضمن إطار أهل السنة والجماعة،

2-لا مانع من المحاسبة بشرط عدم الإخلال بمُسَلَّم العقدي والفقهي:

على فرض وجود أخطاء فهي في جميع الأحوال ستكون في القرار السياسي أو العسكري، وليس عقديا بما يخرج من الأمة الذين هم أهل السنة والجماعة، فالنصرة واجبة بكل الإمكانات، والخذلان حرام بكل الصور، والخلاف في الرؤى السياسية لا يرقى إلى مستوى خذلان المسلم لأخيه وهو ينافح عن المقدسات وأرض الإسلام، لذلك يعتبر الخلاف السياسي والعسكري مانعا مغمورا والنصرة على قاعدة الأمة هي الراجح المشهور، فإن معرفة الخير من الشر سهل، ولكن الإشكال إذا كان ترجيحا بين الخيرين، أو الشرين، فإن التمييز بين المعارض الراجح والمانع المغمور على وفق قواعد الشريعة أمر  يضع الفقيه رأسه بين كفيه حائرا، بينما يرى الجهال أن الأمر واضح.

3-صناعة الشقاق بين العامة والسلطان إضعاف للأمة:

إن اشتهار حديث افتراق السلطان والقرآن وتحويل ذلك إلى معارضة عدائية، لا يحتمله الحديث، فإن كل الانتصارات كحطين وعين جالوت كانت باجتماع السلطان والعامة والعلماء، مع أنه كان للسلاطين ما لهم وما عليهم، وكذلك العامة والعلماء، فالعامة اليوم أيضا لهم من الطاعة وعليهم من الموبقات كالربا وأكل أموال الناس بالباطل، فلا يعني إذا خولف الشرع في جزئياته أنه يُهجر في كلياته، فلا بد من استرداد الجماعة ولزومها، والقيام بالتكاليف الشرعية السلطانية والكفائية والعينية، إذ الفصل بين العامة والإمامة (الدولة) واعتبار ذلك الفصل طاعة، فيه تضييع للتكاليف الشرعية، التي لا تتم إلا باجتماع العامة والإمامة، في مواجهة الباطنية والغزو الخارجي، وهذا الفصل يلتقي مع الدهرنة (العلمنة) في العمل والنتيجة وإن فارقها في الاعتقاد.

4-الشريعة فوق مشروعية الإنجاز والتاريخ:

إن الحركات السياسية والعسكرية والاقتصادية لها إنجازاتها، ولكن لا يجوز لهذه المشروعيات أن ترد الشرع الماثل في تقرره الشريعة، وهو سؤال الفقيه ما إنجازك أنت، وأين كنت لما كنا نفعل كذا وكذا، فتصبح الشريعة محكومة وحركة الواقع هي المهيمنة على قراءة النص الديني وهو سبب للتنازع، وهذ التقييم الفكري الذي يعاني من تضخم الأنا على حساب الشرع هو أصل خلق لله تعالى والله صاحب الفضل فيه أولا وآخرا فكيف يكون ذلك الإنجاز سببا لجحود نعمة الله والإعراض عن حاكمة الشرع حسبما تقرره الشريعة.

5-لماذا لا تجاهد الأمة مع أن الجهاد دفع وفرضُ عين:

أ-فرض الجهاد بين الفقهي والإعلامي:

إن كليات الشريعة كوجوب الجهاد عليها لا يجوز أن تؤخذ مستغنية عن النصوص الجزئية والقواعد التفصيلية، مع اعتبار  بقية الكليات الشرعية الأخرى من لزوم الجماعة، وقواعد الترجيح مع حفظ الدين والنفس والمال، فالخطاب القائم خطاب إنشائي لا إجرائي، وغير  قادر على البحث في الجزئيات، لذلك ينتهي الخطاب بأن جهاد الدفع فرض عين ولا يشترط له إذن الإمام إلى العدم، والقعود المحبط، لعدم الوسيلة الصحيحة إليه، فيتحول الخطاب إلى جدل إعلامي وصدامي ينتهي إلى رفع خطاب التكليف، لعدم مناقشة الجزئيات، في حقيقة الإمامة ورتبها من الخلافة للسلطان وأمير الحرب وجماعة المسملين من ذوي الأحلام والنهي، ولا مناقشة التفاصيل المتعلقة بالأفراد والرجال والنساء، وقواعد الجهاد التفصيلية من النكاية في العدو وعدمها.

العدمية هي نهاية الخطاب الديني الإعلامي:

 لذلك أصبحت الثوابت الفقهية كالجهاد فرض عين دون إذن الإمام حالة إعلامية ورأي عام، حيث يستغنى عن الجزئيات بالكليات، أو مناقشة الجزئي مستغنيا عن كليه وهذا من أسباب التراشق بنصوص الشريعة، وطرح بعضها ببعض، كطاعة الإمام والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي هجمات مرتدة للنصوص على بعضها، لذلك حرم الناس من شرف الجهاد بسبب تفرقهم في الدين وامتهانهم النصوص الدينية على غير هدى، فقد تناقضت عليهم بسبب تناول الجزئي مستغنيا عن كليِّه، وتناولوا الكلي مع هدم جزئياته، وهذا عين التفرق في الدين، وجعله شِيَعا كل حزب بما لديهم فرحون.

رابعا: بطلان الحياد الإعلامي حسب المحدِّدات العقدية والفقهية:

1-الشرع هو أمر إزالة للحياد الإعلامي:

إن الحياد الإعلامي في فلسفة الحداثة بني على فلسفة كلية وجودية، وهي السفسطة التي تعتقد أن الحق فكرة ولكل أن يعتقد ما يشاء وعليه فإن الحق متعدد بتعدد الآراء ولا يوجد حق في نفس الأمر، إنما هو إضافي بحسب ما يرى كل فرد، فالحق نسبي لأنه أفكار نابعة من رأس الإنسان، خلافا لما قرره الشرع من الحق نازل من السماء في قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ)، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، ومع هذا الإيمان بأن الحق ثابت من عند الله، فلا يكون نسبيا باعتبار  آراء الناس، بل يجب البحث عن مراد الله تعالى وبيانه للناس، وهو أمر  إزالة للحياد الإعلامي الفاسد، المتنكر للحق، المتلبس بالضلال.

2-بتعيين مراد الله تعالى يظهر  أصل الأمر  بالمعروف والنهي عن المنكر:

فإذا تعين مراد الله تعالى في العقيدة والفقه كما مر، فإن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو نتيجة لتعين مراد الله تعالى الذي وجبت نصرته وحرمت مخالفته، وهذا أصل في الدين مناقض لأصل الحداثة، وعليه فإن النظر إلى أهلنا المرابطين نيابة عن الأمة، على أنها وجهة نظر تقابلها وجهة نظر أخرى مساوية للعدو، فإن هذا خيانة ليس للشعب، بل هي خيانة لأصل الدين الذي تعين فيه مراد الله تعالى في حق هذه الأمة وأن نصرتها هو أمر بالمعروف والوقوف على الحياد في اللاأدرية هو عبثية من المنكرات الواجب إنكارها شرعا لمخالفتها أصلا دينيا في ظهور مراد الله في العقيدة والشريعة والأمة كما مر.

3-المظاهرات بين أصل الجماعة وإنكار المنكرات:

أ-يجب مراعاة الكليات في المظاهرات:

إن لزوم الجماعة أصل شرعي كما أن إنكار  المنكر أصل شرعي، والأصول في نفسها لا تتنازع لأنها كليات محكمة، والمحكَم لا يعارض المحكم في نفسه، ولكن التعارض الظاهر قد يكون في إلحاق جزئي بهذا الأصل أو بالأصل الآخر، فالمظاهرات تأييدا لقضية من قضايا المسلمين إذا كانت تؤدي إلى الصدام بين قوى الأمن والمتظاهرين، وإتلاف النفوس والأموال، لم تعُد تحت أصل إنكار المنكر  بل هي في نفسها منكر من المنكرات، وأخلَّت بأصل لزوم الجماعة.

ب-المظاهرات المثمرة هي التي تحفظ الكليات:

 -أما إذا كانت المظاهرات منضبطة بحيث لا تؤدي إلى شق الجماعة ولا تتلف نفسا ولا مالا، بل حافظَت على أصل الجماعة، وأحيت القضية العادلة في الناس، وعرفت بالحق، فهي عندئذ مندرجة تحت أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجزئية من جزئياته، فالدم والمال لا يختلف بين كون مسلم ومسلم معارضة وموالاة، شرطي ومتظاهر وعسكري، فكل هؤلاء محفوظون تحت كلي حفظ النفوس والأموال على السواء، لأن دماء المسلمين متكافئة.

4-ثمرة الحفاظ على الأصول الكلية:

إن الحفاظ على الأصول الكلية يعني حفظ الجبهة الداخلية متماسكة دون وقوع فتنة مسلحة تفكك الدولة والمجتمع مع العلم أن الحفاظ على قدرات الأمة الذي يديم قواها الكامنة فيها، حتى نرى العدو يعمى بصره وينكث عهوده الكاذبة ولا تجد الدولة العربية محضنا صادقا لها إلا أبناء شعبها المخلصين الذين صبروا وكابدوا من أجل حفظ كليات الشريعة حتى حانت ساعة الالتحام بين الشعب والدولة، في مواجهة العدو، أما لو أهدرت كليات الشريعة أتلفت الدماء والأموال فيما بين الشعب والدولة في الفتنة العمياء، فهذا يعني أن العدو  سيتقدم لقضم أوطاننا على جثثنا وأشلائنا التي أتلفت بأيدي التدين الشعبوي في خطابات تعبوية عمياء، لذلك الصبر على حفظ الضروريات مع إقامة واجب إنكار المنكرات بشروط الإنكار الشرعية، فذلك كاف لتحقيق اللحمة بين الدولة بسبب السعي الواعي بين المطالب المشروعة للشعب وضرورات الدولة وإكراهاتها.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا يَنْجبِر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

18 -ربيع الآخر-1445

1-11-2023

الجهاد والسلطان، جهاد الدفع، حكم المظاهرات، الإمامة والدولة، القتال الفردي، الجبرية والسياسة، القدرية والسياسة، مسؤولية العباد، السياسة الشرعية والجهاد، تقييم المفاسد والمصالح في الشريعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top