تمهيد:
1-مبدأ قيام علوم العربية لخدمة الشريعة:
قامت علوم العربية على خدمة نصوص الكتاب والسنة، وتنافس في ذلك العرب والعجم، في خدمة لغة القرآن، التي لم تعد لغة قومية بل أصبحت لغة دينية بين الخلق وخالقهم، وسارت الأمة قرونا في ذلك إلى أن حصل الفصل المعاصر بعد اقتحام القوى الاستعمارية ميدان العلم والتعليم، بحيث أصبحت العربية في كلية والفقه الإسلامي وأصوله في كلية أخرى.
2-واقع فكّ العربية عن الشريعة:
فطالب العربية لا يدرس ما أصول النظر في النص الشرعي، وطالب الشريعة بعيد عن أصول النظر في لغة النص الشرعي، مما أنتج حالة شخصية أن الفقه واللغة يركضان في المكان دون تقدم حقيقي على مستوى الأمة الحضاري، وإن حصل ذلك على مستوى الأفراد، وأدى ذلك إلى إحلال مناهج أدبية غربية معاصرة تحل محل النظر الأصولي في النص الشرعي وأدى ذلك إلى ظهور تفاسير شاذة للنص الشرعي ، مما يطرح السؤال أين حلقة الوصل بين النظر الأصولي في النص والنظر اللغوي، وأجيب على ذلك بعد الاستعانة بالله مستعينا بأصول البلاغة والنحو وبشكل رئيس بما تيسر من دلائل الإعجاز للإمام الجرجاني في نظريته في النظم والإعجاز.
أولا: مقدمات لغوية في علاقة اللفظ بالمعنى:
تمثل هذه المقدمات ثلاث روابط جامعة بين الكلام والمعنى المراد للمتكلِّم، وهي: التوخي، والمزج، والإسناد، وفيما يأتي تفصيل ذلك.
أولا: جامع التوخي في تكون الكلام:
وأقصد بالجامع هنا ما يربط بين الكلام الذي هو الألفاظ والمعنى المراد للمتكلم.
1-معنى التوخي:
ويعني ذلك تحري مطابقة الكلام للمعنى المراد للمتكلم، يعني أن الكلمات تكون متناثرة في المعجم، لكل مفردة معناها حسب وضع العرب لذلك المعنى، مثل كلمة: باب، وجَناح، وكتاب، فتجد المعنى في المعجم للكلمة بصرف النظر عن تركبها في جملة مفيدة وهو معنى الكلام عند النحاة، الذي هو الكلام المفيد، ولا يكون مفيدا إلا إذا كان على أصول النحو وحسن السكوت عليه.
2-مثال على التوخي:
لو أن أحدهم قال: ما أجملُ السماء؟ لأجبناه، قمرها ونجومها، لأنه يسأل عن أجمل شيء في السماء، أما لو نصب (أجمل)، فقال: ما أجملَ السماء، لوضعنا علامة الترقيم التعجب، لأنه متعجب منها، لا سائل، ولو افترضنا أنه قال: ما أجملُ السماء؟ فأجَبْنا: نجومها، قال بل أردت التعجب، لأنكرنا عليه هذا القالب من اللفظ، لأنه لا يناسب أصول النحو، وقلنا له إن كنت متعجبا فاستعمل القالَب الثاني: ما أجملَ السماء!
3-النسق الواحد في اللغة:
ومن أخَلَّ بالتوخي، كمن أراد التعجب، فجاء بصيغة الاستفهام، أو العكس أراد الاستفهام فجاء بالتعجب، بينا له أن عليه أن يدرك أن النحو هو نسق واحد في لغة العرب، فالفاعل مرفوع سواء كان في كلام العرب قبل الجاهلية، أم في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أم في كلام الحق تبارك وتعالى، فهذا نسق واحد للغة يجعلها وسيلة تواصل مُـحْكمة، لا لغزا باطنيا لا يُعرف معه معنى الكلام، ويلغي مراد المتكلم، ويحل محله مراد السامع والقارئ، وهذا هو جوهر الباطنية والغُنوص في فهم النصوص الدينية.
ثانيا: المعنى المزجي الناشيء من جملة الكلام:
1-معنى المزج:
ومعناه أن الكلمات تتعلق بعضها ببعض، وانتظمت على أصول النحو لتعبر عن معنى واضح، لا يجوز تفكيكه إلى قطع أولية، فالعبارة الأولى هي التعجب، والثانية هي الاستفهام، وتصبح الكلمات في دلالة الوضع (المعجم) قبل تركيب الجملة بمثابة مكونات الطعام قبل طبخه، حتى إذا طبخت جميعا، اشتركت جميعا في تكوين مذاق واحد، غير قابل للتجزئة إلى العناصر الأولى قبل الطبخ.
2-خطورة تفكيك المعنى المزجي:
وإن محاولة ذلك ستلغي المعنى في مراد المتكلم ومن فعل ذلك في كتاب الله تعالى فيكون قد أفسد التركيب وأصول تعلق الكلم ببعضها، وجعل القرآن عِضِين، أي أعضاء مقطعة كل كلمة على انفرادها، وهذا لا يهدم المراد الإلهي فحسب، بل يهدم أيضا الإعجاز في رصف كلمات القرآن وتعلقها ببعضها في أداء المعنى البليغ، وهذا التفكيك هو جوهر التفسيرات المنحرفة للنص الشرعي سواء كانت تلك الانحرافات داخل الوسط الإسلامي، أم جاءت من خارجه على يد الدَّهرية (ما يسمى بالعلمانية).
3-مثال المعنى المزجي:
فلو ذهب أحدهم إلى هذا المذهب التفكيكي الذي يجعل القرآن عضين: في قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)الإسراء، فإن المعنى المفكَّك سيفسر العبارة بأن المطلوب هو تنزيل جناح الطائر للوالدين، لأنه لا يتلفت إلى سِلْك النظم، وروعة البيان، ويزعم بذلك أن الجناح هو عضو الطائر في لسان العرب، مما أفسد المعنى وذهب ببهائه وبلاغته في النفس،
4-المعنى المزجي هو ثمرة الكلام:
أما التفسير بمعنى المزج الذي بني على التوخي، فإن المعنى هو: ضُمّ والديك برفق إلى جنبك، كما يضم الطائر برفق أفراخه تحت جناحه، فيكون المعنى قد اكتسب صورة من الواقع، حَرِية بالتمثُّل والاقتداء بها، لأنها ملموسة للمخاطَب، وكلمة الجناح اكتست معنى جديدا بهذا التركيب والاستعمال، ليس موجودا في اللسان العربي وضعا، ويظهر بهذا النظم والاكتساب للمعنى في بلاغة القرآن بعد اكتمال لسان العرب في الوضع اللغوي قبل نزول القرآن الكريم.
ثالثا: الإسناد مناط الفائدة:
1-الاسم قطب الإسناد في العربية:
يعد الاسم قطبَ رحى اللغة العربية، إذا لا تخلو جملة عربية من المسند إليه وهو الاسم، فالجملة إما فعلية كسافر خالد، فخالد هو الفاعل وهو المسند إليه، أو اسمية: محمد مجتهد، والمسند إليه هو محمد، والاجتهاد مسند، فلا تتصور جملة في العربية خالية من المسند إليه وهو الاسم، ولكنها قد تخلو من الفعل والحرف.
2-خطورة خلو الجملة من الإسناد:
وإذا خلت الجملة من الإسناد الذي ركنه المسند والمسند إليه، فلا تؤدي معنى مفيدا يحسن السكوت عليه، وتصبح المفردات متناثرة إذا خلت من الإسناد، فلا تجتمع الكلمات ببعضها على نحو يخدم المعنى، ويصبح الكلام هذرا قبيحا، يتنزه عنه العقلاء، كأن تقول حضر دون فاعل، أو خبرا دون مبتدأ، وتقول: خالد، وينبغي هنا التمييز بين ما هو مقدر غير مذكور في الكلام، وبين يؤلف الكلام من دونه، كفعل بلا فاعل، وخبر بلا مبتدأ، فلا يكون كلاما عندئذ.
3-توثيق علاقة مراد المتكلم بقالب الألفاظ:
لعل المشكلة الحاصلة اليوم في التفسيرات للنص الشرعي، كامنة في اختلال العلاقة بين المعنى الذي هو مراد المتكلم باللفظ، فالعلاقة الصحيحة هي أن الكلمات ورصفَها تمثل الخريطة الظاهرة التي يتوصل بها إلى المعانى الباطنة في نفس المتكلم، لا أن تحوِّل التفسيرات الكلام معبرا عن شعور السامع والقاريء، وإلغاء مراد المتكلم الذي عبر عن المعنى في باطنه بتلك الخريطة الدالة عليه، ثم تسرق الخريطة لتصبح دالة على مراد السامع والقاريء وإلغاء مراد المتكلم وتفكيكه، وهو ما يحصل في القراءات التفكيكية اليوم للنص الشرعي.
رابعا: تلخيص الروابط الثلاثة لعلاقة اللفظ بالمعنى:
يظهر من ذلك أننا نقف أمام ثلاث كلمات، تلخص لنا الرابطة الوثيقة بين مراد المتكلم الباطن وكلامه الظاهر، وهي: التوخي، والمزج، والإسناد، وكلها دالة على الربط والتوثيق، تأبى المساس بالعلاقة بين مراد المتكلم الخفي وكلامه الظاهر، وأن تفكيك المعنى بحيث يعبر عن مراد السامع أو القاريء، يعني فقدان اللغة نسقها في الجمع ولغة الخطاب المشتركة.
خامسا: خطورة تفكيك اللغة الجامعة:
1-مقدمة في التفكيك العام:
ويتجلى ذلك في تحول اللغة إلى حالة فردية موغلة في الرمزية، ونصبح أمام المتكلم الفرد في اللغة، والمالك الفرد في الاقتصاد، والمتدين الفرد في الفتوى من الشعور في النص الشرعي، أضف إلى ذلك الإنسان الفرد في الاجتماع في حال تفكيك الأسرة، مما يعني اكتمال عناصر هيمنة القوة الغاشمة التي أحالت البشرية إلى حطام من الأفراد فقدوا تجانس اللغة، والأسرة، والدين، والاقتصاد، وأصبحت تحت استبداد الفرد الأقوى، وهيمنة العولمة.
2-أثر التفكيكية على النص الشرعي:
إن قراءة النصوص الشرعية تكون للكشف عن مراد الله تعالى من الوحي بشقيه: الكتاب والسنة، وتكون المهمة كبرى إذا كان الكلام كلام الله تعالى، وطلب مراد الله تعالى من كلامه، من ظواهر الشريعة، وعللها، وأصولها وقواعدها، أما القراءة الظاهرية المغالية، أو الباطنية المجافية فكلاهما بعيدان كل البعد عن مراد الحق سبحانه وتعالى، وهذا أمر ستأتي تفصيلاته في أمثلة كثير في نشأة الطوائف وتفسيرات الدنيوية التي بدأت تطفو على سطح الإعلام، فهي إما مغالية في الظاهر أو مجافية للمقاصد والعلل.
ملاحظة: تعتبر هذه المقالة تأسيسية للمقالة الآتية في أصول الفقه من مباحث الألفاظ.
وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه
د. وليد مصطفى شاويش
عميد كلية الفقه المالكي
عمان المحروسة
غرة ذي الحجة 1440
2-8-2019
جزاكم الله خيرا، ونفع الله بكم،
بسم الله الرحمن الرحيم . جزاك الله خيرا يا . د . وليد شاويش . لقد لامست افكارك الرائعة ما كنا نحس به من امتعاض شديد عندما كنا نقرا اغلب استشهادات الجفاة من الباطنيةوأمثالهم من الفرق الضالة . وكنا نحس بانحرافها عن المعنى المراد ايصاله انحرافا يدعو الى الشعور بالتقزز والقرف من هذا الفهم السقيم للنص القرآني الكريم . فقد كان مراد المتكلم في واد وفهمهم له في واد آخر .
اتمنى عليكم يا دكتور وليد عقد دورات متخصصة لمعلمي اللغة العربية والتربية الإسلامية لشرح وإيصال هذه الأفكار حتى نبدأ بايصال القرآن الكريم للأجيال القادمة بشرح أقرب واحب إلى النفس. بارك الله بكم سيدي
دقة الكلمات و تسلسل الأفكار أوصل المعنى بوضوح للمتلقي فشكرا لك يا دكتورنا و أفاد الله بك